كتب السلف

لما كنا نحتاج باستمرار إلى كتب السابقين الغير محرفة، ولما كثر التحريف بفعل قلة غير مسئولة تقوم بإصدار الكتب المحرفة وطرحها فى الأسواق أو عرضها فى الشبكة العالمية للمعلومات، وسواء كان ذلك يتم بحسن نية أو بغيرها، فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصادر الصحيحة فى هذه الشبكة لكتب الصالحين وعلوم السابقين، ونحن نرشح لكم المواقع الصديقة التى تتحرى الدقة فيما تعرضه من كتب حتى تجدوا ما تحتاجونه من كتب وعلوم السابقين التى حاول البعض أن يدثروها ويغطوا عليها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المغرضون، وسنقوم باستعراض بعض الكتب التى أستشهد بها الإمام فخر الدين فى مؤلفاته ودروسه من هذه المواقع، وللمزيد عن تلك المواقع زوروا صفحة المكتبة من الموقع الرئيسى.

 

كتاب من المكتبة:

من كتب الأعلام:

الأم

 

كتاب الأم للإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصى، ويلتقى نسبه مع رسول الله فى عبد مناف، وهو المشهور بالشافعى، 150-204 هـ، ولد بغزة ثم نقل إلى مكة وهو ابن سنتين، وحمع القرآن صغيرا وجالس العلماء وطلب الحديث والشعر وأيام الناس والأدب، وقرأ على الزنجى وابن عيينة وابن جريج وابن أبى رباح، وقرأ على الإمام مالك ويقول حفظت القرآن وأنا بن سبع والموطأ وأنا بن عشر، وجال الإمام فى الأمصار فجمع فقه وحديث مكة والمدينة والعراق، وأخذ عن صاحب الإمام أبى حنيفة محمد بن الحسن، وصنف كتبا فى بغداد قبل أن يصنف مصنفاته الأساسية فى مصر، واجتمع للإمام الشرف مع صحة الدين مع سخاوة النفس مع معرفة الحديث الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ مع حفظ كتاب الله وأخبار الرسول وسيرته وخلفاءه بالإضافة إلى كشفه تمويه مخالفيه وكتابته للكتب وصحبتة العالية والعلم والأدب، وكتاب الأم يزخر بعلم وأدب الشافعى، وهو الكتاب الرئيسى لمذهب الشافعية، وناقش فيه الإمام مذاهب من قبله وخالفهم مع حسن أدبه معهم، وأحسن فيه النظم والترتيب والحجج فى المسائل والأصول والإيجاز، وهو مكون من عدة كتب ضمت فى كتاب واحد أسماه الأم، واحتوى الأم بين دفتيه كتبا فى الفروع والأصول والفقه المقارن وآيات الأحكام وأحاديث الأحكام وتفسيرها، وقد رتبه تلاميذه واختصره المزنى، وطبقاته فى العلم هى الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم أقوال الصحابة الذى لا خلاف عليه ثم اختلاف الصحابة ثم القياس.

وقد حرص المحقق على تخريج الحديث والكلام والشعر وشرح معانى الكلمات ولم يتعرض فيه بتغيير إلى حد علمنا.

رابط كتاب الأم فى موقع التراث

 

 

أسرة التحرير

 

ملحوظة: لتحميل كتاب من موقع التراث؛ يتم تنزيل جميع الملفات المضغوطة (rar files) الخاصة بالكتاب ثم توضع معا فى نفس الفولدر ولا يتم تغيير أسمائها أبدا ثم بفتح أى ملف منها وعندها يمكن أن تجد الكتاب والذى يكون أما ملف واحد أو عدة ملفات من طراز (pdf) فيتم نقلها إلى خارج الملف المضغوط فى فولدر واحد أيضا ولا يتم تغيير أسمائها أبدا ثم تفتح باستعمال برنامج قراءة الأكروبات

 

 

 

أماجد العلماء

الحمد لله الذى اختص العلماء بوراثه الانبياء والتخلق باخلاقهم وجعلهم القدوه للكافه، فقد ضل كثير من الناس وابتعدوا عن هدى الحبيب عندما تركوا الاخذ عن اكابر علماء هذه الامه وادمنوا الاخذ من الاصاغر ففارقوا ما كان عليه سلفهم الصالح وما استقرت عليه أمة المسلمين عقودا وقرونا.

قال : (لازال الناس بخير ما اخذوا العلم عن اكابرهم، فاذا اخذوا العلم عن اصاغرهم هلكوا)، وقال : (ان هذا الدين علم، فانظروا عمن تاخذون)، وقال : (اذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا، ولا حول ولا قوه الا بالله).

ويقول السيد فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبد البرهانى :

ولإن سُئلتم ما الكتاب فانه     مما رواه أماجد الأعلام

 والمجمع عليه عند الساده العلماء ان الواحد منهم لا ينتقص كلام سيدنا رسول الله  ولا يحكم بوضعه ولا يضعفه ولايقدح فيه الا اذا كان فى يده سند من آيات كتاب الله او سنه نبيه عليه افضل الصلاه وازكى السلام, ومنذ بدايه القرن الاول الهجرى والثانى والثالث والرابع وحتى يومنا هذا تولى ساداتنا من اماجد العلماء رضوان الله عليهم الحفاظ على تراث ديننا الحنيف كما احب واراد فكانت الاحاديث الصحيحة والتفاسير الصادقه واحداث التاريخ من بدايه الرساله المحمديه مع تسلسلها التاريخى إلى يومنا هذا محفوظه ومسنده بكل امانه وصدق، ومن هؤلاء الساده العلماء الاجلاء ومع سيرته الطيبه كان:

 

الإمام الشافعى

 

هو ثالث الأئمة الأربعة أقطاب الشريعة الإسلامية، (الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد ابن حنبل ) والذين على اجتهادهم المُصيب استقام الدين، ودارت رَحاه، فوجب على كلِّ مسلم توقيرهم، والانطواء على كمال محبتهم فى ظاهره وخَفاه، وأنْ يعلم أنّ كلَّ واحد منهم أخذ من الشريعة وهو مُصيب في دليله ودَعواه، ومَن لم يكن كذلك فهو من الطائفة الرافضية، الذين رفضوا الدين ونبذوه وراه، لأنّ مَنْ احتقر عالما من سائر علماء البرية، فقد كفر بالإجماع، أما محبتهم فتستوجب شفاعتهم، في يوم يُنكر العبد أخاه.

وهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وإليه تُنسب الشافعية، ابن السائب بن عُبيد الله بن زيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، جَدّ النبى .

ولدَ الإمامُ الشافعى بغزةَ سنة 150 هـ، ونشأَ بعسقلانَ، ويقول الحافظ الخطيبُ البغدادى فى تاريخ بغدادَ: لمّا أنْ حمَلَت أمُّ الشّافِعى بهِ رَأت كأنَّ المشتَرِى خَرجَ مِن بطنها، وهو من أكبر النجوم السماوية، حتى انقَضّ بمصرَ ثم وقَعَ فى كُلِّ بَلدٍ مِنه شَظِيّةٌ فتَأوّلَ أَصحَابُ الرؤيا أنّه يخرُج مِنها عَالمٌ يخُصُّ عِلمُه أهلَ مصرَ ثم يَتفرّقُ فى سَائرِ البُلدَان. وانتقلَ الشافعى إلى مكةَ ليتزودَ من العلمِ، مَعَ أنهُ نشأَ فى أسرةٍ فقيرةٍ، فلقد ماتَ أبوهُ وهو صَغيرٌ فعاشَ فى ضِيقٍ، ولكنَّ هذا لم يمنعْهُ من العلمِ والمعرفةِ، فقد وصَلَ بهِ الأمر إلى كتابةِ العلمِ الذى يأخذُهُ على قطعِ الجلودِ وسَعَفِ النَخْلِ لضِيقِ ذاتِ يدهِ وعدمِ قدرتهِ على شراءِ الوَرَقِ.

يقول إسماعيلَ بنِ يحيَى سمعتُ الشّافِعى يَقولُ حَفِظتُ القُرءانَ وأنا ابنُ سَبعِ سِنينَ وحَفِظتُ الموطَّأ وأنا ابنُ عَشرِ سِنينَ. حيث أخذَ يحفظُ الأحاديثَ النبويةَ ويكتُبُها، ورحَلَ إلى الصحراءِ لطلبِ اللغةِ العربيةِ والشِعْرِ وبقى فيها عشرَ سنواتٍ، وتعلَّمَ الرمى بالسهامِ فكانَ يصيبُ عَشَرةً من عَشَرَةِ، يقول الربيع سمعتُ الشافعى يقولُ كنتُ أَلزَمُ الرَّمى حتى كانَ الطّبيبُ يقولُ لى أخافُ أن يُصِيبَكَ السُّلُّ مِن كَثْرةِ وقُوفِك فى الحرّ، قال وقال لى الشّافعى: كنتُ أُصِيبُ مِن عَشرةٍ تسعةً. أو نحوًا مما قال: وكانَ يتَعمّد عدَم إصابةِ العاشِرةِ حِفظًا من العَين.

ولكنَّهُ كانَ فى طَلَبِ العلمِ الشرعى مُجِدًّا صادِقَ الهمةِ، ماضِى العزيمَة أُذِنَ لهُ وهو بمكةَ بالإفتاءِ رَغمَ حداثةِ سِنّهِ، يقول الرّبيع بنَ سُليمانَ يقولُ كانَ الشّافعى يُفتى ولهُ خمسَ عشْرَة سنةً وكان يُحيى الليلَ إلى أن ماتَ. ولكنهُ لم يكتفِ بذلكَ فسافرَ إلى المدينةِ ليتفقهَ على يدِ إمامِها مالكِ بنِ أنسٍ . استعارَ كتابَ الموطأِ للإمامِ مالكٍ فحفِظَهُ؛ وهنا نَلْحَظُ أنه لم يكنْ يستطيعُ أن يشترى الكُتُبَ من شدةِ الفقرِ، ولم يثْنِهِ ذلكَ عن مَقْصودهِ ومبتغاهُ وهو يعلمُ أن الله إذا أحبَّ عبدًا يُهيئ لَهُ من يعلِمُهُ أمورَ الدينِ على الوجهِ الصحيحِ، فلما أتى مجلسَ مالكٍ سألَهُ الإمامُ مالِكٌ عن اسمهِ فقالَ: محمدٌ، فقالَ لَهُ "اتقِ الله يا محمدُ واجتنبِ المعاصى فإنهُ سيكونُ لكَ شأنٌ، إن الله قد ألقى على قلبِكَ نورًا فلا تُطْفِئْهُ بالمعصيةِ". ثمَ أخذَ الشافعى يقرأُ على مالكٍ ويتلقى العلمَ منهُ، وظلَّ مَعَهُ يروى عنهُ إلى أن ماتَ الإمامُ مالِكٌ . ثم رحل إلى بغداد، وناظر فيها محمدا وأبا يوسف، من أكابر الحنفية، وغيرهما من أجلّ العلماء، فأظفَرَه الله عليهم وأعلاه، ولمَّـا قام على خصمائه عند الرشيد بالحُجة البرهانية، قال الرشيد: صدق رسول الله حيث قال (تَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ، وَلاَ تُعَلِّمُوهَا) و (قَدِّمُوا قُرَيْشًا، وَلاَ تَقَدَّمُوهَا) زجرا لِخصماه. السنة لابن أبى عاصم. ولكنه استقر بمصر بعد ذلك.

وقد نبغَ الشافعى نبوغًا عظيمًا وعلا شأنهُ وسما عِلْمهُ، وقد تحقَّقَ فيهِ قولُ الرسولِ فى الحديثِ الشريفِ (لا تَسُبُّوا قريشًا، فإنَّ عالمها يملأ طِبَاقَ الأَرضِ عِلْمًا) ومعناهُ: سيأتى عالمٌ من قريشٍ يملأُ جهاتِ الأرضِ علمًا، ففكرَ العلماءُ على من ينطبقُ هذا الحديثُ فوجدوهُ ينطبقُ على الإمامِ الشافعىّ لأنهُ من قريشٍ، أما الثلاثةُ الآخرونَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ فليسوا من قريشٍ.

ويقولُ المُزنى سمعتُ الشافعى يقولُ رأيتُ على بنَ أبى طالب فى النّوم فسلَّم على وصافَحنى وخَلَع خاتمَه وجعلَهُ فى إصبَعى، وكانَ لى عمٌّ ففَسّرها لى فقال لى أما مُصافَحتُكَ لِعَلى فَأَمْنٌ مِنَ العَذابِ وأمّا خَلعُ خاتَمِه فجَعْلُه فى إصبَعِكَ فسيَبلُغُ اسمُكَ ما بلَغَ اسمُ عَلى فى الشّرق والغَربِ.

ويقول الحافظ الخطيبُ البغدادى سمعتُ أبا بكرٍ محمدَ بنَ أحمدَ بنِ السّائِبِ الضَّرِير بمكّةَ يقولُ قال أبى سمعتُ عمّى يقولُ سمعتُ الشّافعى يقولُ أَقَمْتُ فى بُطُونِ العَربِ عِشرِينَ سَنةً آخُذ أشعَارَها ولُغاتِها وحفِظتُ القُرءانَ فما علِمتُ أنّه مَرّ بى حَرفٌ إلا وقَد عَلِمتُ المعنى فيه والمرادَ ما خَلا حرفينِ. قال أبى حفِظتُ أحدَهما ونسِيْتُ الآخرَ، أحَدُهُما: دَسّاها.

وقد أكرمَ الله تعالى الشافعىَّ بمواهبَ عديدةٍ منها حُسنُ الصوتِ، حتى إنهُ لما كان يقرأُ القرآنَ وهو فتًى كان يقصِدُهُ الناسُ للاستماعِ إلى صوتهِ الشجىِّ، وكان بعضُ الجالسينَ المستمعينَ لقراءتهِ يتساقطونَ من شدةِ خشيةِ الله وما ذاكَ إلا لسِرّ فى قراءَتهِ. يقولُ بَحرَ بنَ نَصرِ كُنّا إذا أَردنَا أن نَبكِى قُلنا بَعضُنا لبعضٍ قُومُوا بنا إلى هذا الفَتى المطَّلبى نَقرأ القرآنَ، فإذا أتَيناهُ استَفتَح القرآنَ حتى يتَساقَط النّاسُ بينَ يدَيهِ ويَكثرَ عَجِيجُهم - أى رفعُ صَوتهِم - بالبُكاء مِن حُسنِ صَوتِه، فإذا رأى ذلكَ أمسَكَ عن القراءةِ.

ومما ورد فى عبادتِه ما رُوى مِن أنه كان يُقَسِّم الليلَ إلى ثلاثةِ أجزاء: ثُلُثٌ للعلم، وثلثٌ للعبادة، وثلثٌ للنوم. ثم قال قالَ حدّثنى الحسَينُ بنُ على يعنى الكَرابِيسى قالَ بِتُّ مع الشّافعى غَيرَ ليلةٍ فكانَ يُصلّى نحوَ ثُلثِ اللّيلِ فَما رأَيتُه يَزيدُ على خمسينَ آيةً فإذَا أكثرَ فمائةً وكانَ لا يمرُّ بآيةِ رحمةٍ إلا سألَ اللهَ لنَفسِه وللمؤمنينَ أجمعينَ ولا يمرُّ بآيةِ عَذابٍ إلا تعوَّذَ منها وسَألَ النّجاةَ لنفسِه ولجميعِ المسلمينَ. قال فكأنَّما جُمِعَ لهُ الرّجاءُ والرّهبَةُ جمِيعًا. ويقول الرّبيعَ بنَ سُليمانَ: كانَ الشّافعى يختِم فى كلِّ ليلةٍ ختْمَةً فإذا كانَ شَهرُ رمضانَ خَتمَ فى كلِّ لَيلةٍ مِنه خَتمَةً وفى كلِّ يوم خَتمَةٍ، فكانَ يختِمُ فى شَهرِ رمضانَ سِتّينَ خَتمةً. ولا تعارض هنا مع رواية الكرابيسى حيث لا يتم الصالحين عبادتهم أمام الناس خوفا من الرياء.

وورد فى زهدِ الإمام الشافعى أنه قال: ما شبعتُ منذُ ستَ عشرةَ سنة، لأنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ البدن، ويُقَسِّى القلب، ويزيلُ الفِطْنَة، ويجلبُ النوم، ويضعفُ صاحبه عن العبادة. وورد فى ورعه أنه مرة سُئل عن مسئلة، فسكتَ فقيل له: ألا تجيبُ رحمكَ الله! فقال:" حتى أدرى، الفضلُ فى سُكوتى أو فى جوابى؟

وكان إذا نظـر فى أعظم مجلد من الكتب العلمية، حفظه بمجرد نظره إليه؛ لشدة حفظه وذكاه، وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبى فى كل قضية، وإذا رأينا صاحبَ بِدعة يمشى على الماء ما قبلناه، وما حلف بالله لا صادقا ولا كاذبا، تعظيما لرب البرية، وما ناظر أحدا إلاّ وأحبَّ أن يَظهر الحقُ على يدى الخصم ليتعلم منه. وأمَّـا الكرم بالنسبة إليه فمُستحقر عنده المكارم الحاتمية، وأمَّـا حِلْمه ورزانته وسيرته فكلها  أخلاق رسول الله وسجاياه، ومن كرمه أنه فرّق أربعين ألف دينار مع الفاقة الكُليّة، وأعطاه الإمام مالك عشرة أحمال من المال، فأنفقها لله. ووقعت منه العصا، فناولها له رجل من الطُرقية، فأعطاه خمسمائة دينار، وأجزل حَباه، وخـاط له الخياط ثوبا، فجعل الكُم لبيمين واسعةً وكبيرة، والأخرى ضيّقةً وصغيرة؛ لأجل السُخرية، فقال الإمام: جزاك الله عنا خير جزاء، أمَّـا الضيّقة فلن أحتاج للتشمير فى الكتابة، وأمَّـا الواسعة فسأضعها على الورقة التى لا أقرأها كى لا تتداخل مع الورقة الأخرى - حيث كانت ذاكرته فوتوغرافية، بمعنى أنه إذا نظر للورقة رسمت فى ذاكرته – ثم أعطى الخياط عشرة الآف درهم وحيّاه.

ومِن أهم ما فى حياةِ الإمام الشافعى ، منهجُه فى العقيدة، والتزامُه نهجَ الكتاب والسنة، وما عليه سلفُ الأمة من تنْزيه الله تعالى عن الجسم والمكان، ومن تكفيره للمجسمة الذين يصفون الله بصفاتِ المخلوقات، ومنْ تكفيرِ الذين ينسبونَ الجلوس لله تعالى، والعياذ بالله، ومن أقواله فى العقيدةِ الحقةِ ما نقله عنه الزبيدى فى كتاب إتحافِ السادةِ المتقين أنه قال ما نصُّه: "إنَّه تعالى كانَ ولا مَكَان، فخَلَقَ المكانَ، وهو على صفةِ الأزليةِ كما كانَ قبلَ خَلْقِه المكان، لا يجوزُ عليهِ التغيّرُ فى ذاتِه ولا التبديلُ فى صفاتِه". ورَوَى الحافظُ السُّيوطى فى كتابِه الأشباه والنظائر عن الإمامِ الشافعى أنه قال: "المجسِّمُ كافرٌ". وفى كتابِ نجم المهتدى ورجم المعتدى للإمام ابنِ الـمُعَلِّم القرشى أن الإمامَ الشافعى قال: "مَنْ يعتقدُ أنَّ اللهَ جالسٌ على العرشِ فهو كافر" كما حكاهُ القاضى عياض.

وقال أيضا "منِ انتهضَ لمعرفةِ مُدَبِّرِهِ فانتَهَى إلى موجودٍ يَنْتَهِى إليه فِكْرُهُ فهو مُشّبِّهٌ، وإنِ اطمأنَّ إلى العَدَمِ الصِّرفِ فهو مُعَطِّلٌ، وإنِ اطمأنَّ إلى موجودٍ واعترفَ بالعجزِ عنْ إدراكِهِ فهوَ مُوَحِّدٌ".

وله من الشعر والنثر، والفوائد الحِكمية، ما يبهر العقول، ويكشف عن القلب عَماه، فمن حِكَمِه الرائقة، ونصائحه النثرية، كان يقول: زينة العلماء الخُلُق، ومخافة الله وتقواه، ومَن لا يُحب العلم لا نفعَ فيه، ولا خيرية، ولا يكنْ بينك وبينه معرفة، ولا ترضاه. وكان يقول: مَن تعلّم القرآن عظُمتْ قيمته البخسيّة، ومن نظر في الفقه، نبُل قَدره، وزاد انتباه. وقال: مَن أحب أنْ ينوّر الله قلبه، فعليه بالخلوة الشرعية، وترك الأكل، وترك مخالطة السفهاء الدُّناة. وقال: لا يعرف الرِّياء إلاّ المخلصون الطوية، ولو أوصى رجل لأعقل الناس صُرف للزُهَّـاد فى دنياه، والعاقل مَن عَقَلَ عقله عن كل مذموم، وخِصلة دنِية، وأرفع الناس قَدرا مَن لا يرى قَدره وينساه. وقال: القناعة تُورث الراحة، وتملأ الراحة من واهب العطية، والمرء أربعة أركان: حُسن الخُلُق، والسخاء، والتواضع، وعبادة المرء مولاه. وقال: ليس العلم ما حُفِظ، إنما العلم ما نفع فى الدار الأُخروية، وأظلم الظالمين مَن رغب فى مودة مَن لا ينفعه فى دنياه وأُخراه، وأظلم الظالمين مَن تواضع لمن لا يُكرمه، ولا يعرف له مَزِية، وإنك لا تقدر على إرضاء الخلق، فعليك بما يُصلحك عند الله. وقال: مَن أراد الدنيا فعليه بالعِلم، فإنه الرِّفعـة العَلية، ومن أراد الآخرة، فعليه بالعلم، والعمل به لله. وقال: ما أفلح مَن طلب العِلم بعزة نفسٍ أبيّة، ولكن مَن طلبه بذلة نفس، وضيق عيش، نال ما تمناه. وكان فى عنقه مُعلّق رقعة مكتوب فيها بخط القدرة الإلهية: عاهد الله محمد بن إدريس أنْ لا يرى منكرا إلاّ غيّره ومحاه. مناقب الشافعى للجوهرى. وأمَّـا أشعاره، فهى أرق من النسائم السحرية، وكلها حِكم ومواعظ، وأمثال، تُرشد مَن تاه، منها قوله:

مررت على المروءَة وهي تَبكى     فَقلتُ لهـا لما تَبكى الفَتاةُ

فَقـالَتْ كَيفَ لا أَبكـى وأهـلى       جَميعاً دونَ خلقِ اللَهِ ماتوا

وقال :

اِحفَظ  لِسانَكَ أَيُّهــا الإِنسانُ                لا يَلدَغَنَّـكَ  إِنَّـهُ ثُعبـانُ

كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ       قَد كانَ هابَ لِقاءَهُ الشجعانُ

وقال أيضا:

إِذا نَطَقَ السَفيهُ فَلا تَجِبهُ       فَخَيرٌ مِن إِجابَتِهِ السُكوتُ

فَإِن كَلَّمتَهُ  فَرَّجـتَ عَنهُ           وَإِن خَلَّيتَهُ  كَمَـداً يَموتُ

وقال أيضا:

قلْ للذى بصروفِ الدَّهرِ عَيَّرَنا        هلْ عاندَ  الدَّهرُ إلاَّ مَنْ لهُ خطرُ

أما تَرى البحرَ تعلو فوقَهُ جِيَفٌ              وتستقرُّ بأقصى قعـرهِ الـدُّرَرُ

ففي السماءِ نُجومٌ ما لهـا عددٌ       وليسَ يُكسفُ إلا الشمسُ والقمرُ

وقال :

إذا امتلأتْ أيدي اللئيمِ مِن الغِنا    يَفيضُ كما المِرحاضُ فاحَ وأنْتَنا

وأمَّا كريمُ الأصلِ كالغُصنِ كُلَّما     تحمَّلَ مِن خيرٍ تواضعَ  وانْحَنَى

وقال :

دَعِ الأَيّامَ تَفعَـلُ مـا تَشـاءُ      وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ

وَلا تَجــزَع لِحادِثَةِ اللَيالى         فَما لِحَوادِثِ الدُنيـا  بَقـاءُ

وَكُن رَجُلاً عَلى الأَهوالِ جَلداً   وَشيمَتُكَ  السَماحَـةُ وَالوَفاءُ

فَلا حُـزنٌ يَدومُ وَلا سُـرورٌ         وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ  وَلا رَخـاءُ

وأمـر الله محتـوم علينـا             بمـا فيه السعادة  والشقاء

فَيرزُق مَن يشاءُ بلا حسابٍ     ويَحرِم مَن يُريد  كما  يشاء

وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ  التَأَنّي      وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ

إِذا مـا كُنتَ ذا قَلبٍ  قَنوعٍ        فَأَنتَ وَمـالِكُ الدُنيـا سَواءُ

تَغَطّى بِالسَخـاءِ فَكُلُّ عَيبٍ         يُغَطّيهِ كَمـا قيـلَ السَخـاءُ

ووقف فى الثلث الأخير من الليل، فى الأوقات السحرية، منكساً رأسه؛ هيبة وجلالة لله تغشاه، فأنشأ يقول:

بِمَوقِـفِ ذُلّى دونَ عِـزَّتِكَ العُظمى        بِمَخفِىِّ سِرٍّ لا أُحيطُ بِهِ علِمـــا

بِإِطـراقِ رَأسى بِاِعتِرافـي  بِذِلَّتى      بِمَدِّ يَدى أَستَمطِرُ الجودَ  وَالرُحمى

بِأَسمائِكَ الحُسنى الَّتي بَعضُ وَصفِها     لِعِزَّتِهــا يَستَغرِقُ  النَثرَ وَالنَظما

بِعَهـدٍ قَديـمٍ مِن أَلَستُ  بِرَبِّكُـم        بِمَن كـانَ  مَجهولاً فَعُرِّفَ بِالأَسما

أَذِقنا شَرابَ الأُنسِ يا مَن إِذا سَقى        مُحِبّاً شَراباً لا يُضـامُ وَلا يَظمـا

وهذه قطرة من بِحار أشعاره، وحِكمه المروية، وجميعها يضيق عنها نطاق الحصر، وفضائله لا تُحصى، كما هي شهيرة جليّة، فلا يُحتاج إلى ذكرها كلها.

وكان الإمام أحمد تلميذاً للإمام الشافعى وكانت زيارة الإمام الشافعى له تسره جداً، وقد قال الإمام أحمد فى حقه "قبل الشافعى لم أعرف ما الناسخ ولا المنسوخ" والناسخ والمنسوخ هو ما نسخ من القرآن. ويقول عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ: قلتُ لأبى يا أبتِ أى شَيئٍ كانَ الشّافعى فإنّى سمعتُكَ تُكثِرُ منَ الدُّعاءِ لهُ. فقالَ لى "يا بُنى كانَ الشّافعى كالشّمسِ للدُّنيا وكالعافِيةِ للنّاسِ، فانظُر هل لهذَينِ مِن خَلفٍ أو مِنهُمَا عِوَضٌ؟" ويقول أبو داودَ سُليمانَ بنَ الأشعثَ: ما رأيتُ أحمدَ ابنَ حنبل يميلُ إلى أحدٍ مَيلَهُ إلى الشافعىّ، وكان يقول: "ما أعلم أعظم سندا للإسلام من الشافعى وتقواه". وقال أحمد بن يسار: لولا الشافعى لدُرِس الإسلام بالكلية. وقال ابن مجاهد: مَن أراد الظرف فليتفقه على الشافعى، ويتمسك بعُراه.

ويقول المُزنى: رأيتُ النبى فى المنامِ فسَألتُه عن الشافعى فقال لى: (مَن أرادَ محبَّتى وسُنّتى فعَليه بمحمدِ بنِ إدريسَ الشافعى المطّلبى فإنّه مِنّى وأنَا مِنهُ).

ومن كراماته أنه لمَّـا توعّده الخليفة الرشيد بأذى؛ لأجل مسألة علمية، فرأى الإمام فى المنام هاتفا، وهو قائم بين يدى الله، فناداه: يا محمد! تثبّت على دين محمد، وإياكَ إياك أنْ تحيد فتَضِلّ  وتُضِل، اثبُت يا إمام القوم، لا وجلَ عليك منه، إقرأ ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ﴾ يس 8، قال الإمام: فاستيقظت وأنا أقرؤها من تعليم القدرة الربانية، فأرسل له الرشيد، وقال له: نِعْمَ الإمام أنت، لقد عُوتبنا الليلة فيك بما نويناه، فانصرِفْ راشداً، أنت الملحوظ والمحفوظ من كلّ أذيّة. وأمر له بعشرة الآف دينار، ففرقها بين يديه، وكُفى عَناه.

ولم يزل أمراض تعتريه، واشتدت عليه آخـر عمره علة الباسور الدموية، فكان يقرأ العلم والطستَ تحته، ويشكر الله على ما ابتلاه، حتى توفى عند العِشاء الأخيرة، ليلة الجمعة الزهرية، ودفن صبحهـا، آخر يوم من رجب، سنة 204 هـ، وكان عمره أربعا وخمسين سنة تحديديَّة، ودفن فى مقبرة القرشيين، عند جبل المقطم. وحُكى أنَّ الإمامَ المزنى دخَلَ على الإمامِ الشافعى فى مَرَضِهِ الذى ماتَ فيه فقال: كيفَ أصبحتَ؟ فأجابه قائلا "أصبحتُ مِنَ الدُّنيا راحِلا، وللإخوانِ مُفَارِقا، ولسيِّئ عَمَلِى مُلاقيا، ولِكَأْسِ المنِيَّةِ شاربًا، وإلى ربى واردًا، لا أدرى تصيرُ روحِى إلى الجنَّةِ فأُهَنِّيْهَا، أو إلى النَّارِ فأُعَزِّيها"

يقول الربيعُ بنُ سُلَيمانَ: رأيتُ الشّافعى بعدَ وفَاتِه فى المنَام فقلتُ: يا أبا عبدِ الله ما صَنعَ اللهُ بكَ. قالَ: أَجْلَسَنى على كُرسِى مِن ذهَبٍ ونَثَر على اللؤلؤَ الرَّطْبَ. وأراد نظام الملك – من أشهر الوزراء فى التاريخ وحكم لمدة 30 سنة (408-485 هـ) - بعد موته بمدة طويلة نقله إلى مدرسة النظامية، التي أنشأها ببغداد، وأظهر الله العلم بها وأبداه، ولمَّـأ وصلوا إلى اللَّحد، خرجت منه روائح عِطرية، أَسْكَرت الحاضرين؛ حتى وقعوا صَرعى، فأعادوا للقبر بِناه، وتابوا إلى الله، وتركوه في روضة الجنات.

سامر الليل