صبره وتربيته لأصحابه

 

يقول تعالى في كتابه العزيز ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ البقرة 2: 214.

هذه هى الآية الثانية من آيات القرآن التى ذكرت فيها لفظة (الرسول) حيث عطف المولى جل وعلا (الذين آمنوا) عليه تصبيرا لهم بل وتشريفا وتكريما للصحابة الكرام؛ بل وكل من تحقق بالإيمان حيث جعلهم جميعا شركاء له وإخوانا فى الصنيع الواحد وهو صبره على لأواء الدعوة إلى الله -أى شدتها. ومن المعانى الدقيقة التى يجب الإشارة إليها أن منصب الرسالة يستدعى تنزيه الرسول عن التزلزل، إذ أنه أكثر المؤمنين بل وأكثر الخلق إيمانا بالله وقضائه وقدره، وإذن فكيف يقول الرسول متى نصر الله؟ لابد أن ذلك من أجل المؤمنين فالرسول كثير العطف والحنو عليهم، ولذلك فهو يستعجل نصر الله الذى هو أشد الناس ثقة وإيمانا به وبقدومه العاجل قبل الآجل، والأمر الثابت أن شكوى المسلمون لم تكن لتعب حالهم ولكن لغيرتهم على دين الله وخوفهم من التقصير فى خدمته وإحساسهم بالضعف وعدم القدرة والإفتقار إلى الله، وهو ما يجعل زلزالهم أشد حيث أنهم يحبون الله ورسوله ودين الله أكثر من حبهم لأنفسهم، ولذلك فإن قلوبهم قد تلظت بنار الغيرة على دين الله حتى صفت وتصفت، ولذلك فإن هذا الاستعجال لم يأت إلا بعد انتظار حتى علم المصطفى المعلم والمربى بأن قلوب المؤمنين قد شفت وصفت فلم يبق فيها شيئ لغير الله، ولذلك فإن الله لم يعب عليهم ذلك ولم يعاتبهم به، بل طمأنهم لقرب النصر، فالله سبحانه وتعالى يحب رسوله حبا واضحا جليا فى كل آيات القرآن ويحب أمته من أجله، ولذك فلا يكاد المصطفى أن يسأله شيئا بل وقبل أن يسأله، حتى يجيبه سبحانه ويتلطف به

ومن أروع الأمثلة التى ضربها الحبيب المصطفى لصحابته الكرام ليحثهم على التحلى بالصبر على نوائب الدهر ما رواه الإمام البخارى فى صحيحه عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا قَالَ (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) فانظر كيف طمأنهم الرسول على أن الأمر الذى يخافون عليه سيتمه الله ولكنهم يستعجلون.

تأملات فى هذا الحديث:

1- ما أصبر وأحلم هذا الرسول الكريم الذى له ما له عند ربه ويأبى أن يدعو ربه ويسأله النصر، أدبا مع ربه، وإنتظارا لحكمه، وصبرا وحلما على قومه الكفار، وطمعا فى أن يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله، وقد تجلى ذلك عندما أتاه ملك الجبال وأخبره أن الله أذن له أن يطبق الأخشبين على قومه الذين لا يؤمنون فيقول له (بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) فى الحديث المشهور فى البخارى ومسلم والنسائى.

2- تربيته لأصحابه على الصبر والحلم، شأن التلميذ والأستاذ، وإن شئت فقل شأن المريد مع الشيخ، فالأخلاق المذمومة شأن المريد سيما فى البدايات، ومكارم الأخلاق شأن المشايخ فى البدايات والنهايات، لأنهم الآل المطهرون وأصحاب الوراثات. والمريد شأنه التلوين كما أن الشيخ من أهل التمكين، والتلميذ شأنه الرعونة، كما أن الشيخ شأنه السكينة. والمريد من عاداته الضجر، أما الشيخ فقد جبل على الصبر حتى الظفر والتسليم لأحكام القضاء والقدر. فلا غرو ولا عجب أن يخترق الصحابى أستار الكتم والكظم ليسأل الحبيب لما بلغ به الضجر ما بلغ، فيرده ردا جميلا إلى خلق الصبر الجميل، ثم هو يختزن فى عقل تلميذه التربية على مقام الرجولة الحقة لما خاطبه بقوله (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ) فنعم الأب الحنون ونعم المربى. قال سيدى عمر ابن الفارض :

"يا قلب أنت وعدتنى فى حبهم صبرا     فحاذر أن تضيق وتضجرا".

3- كمال ثقتة بالله فى التعبير بالقسم عن التحقق بأن الله سيتم أمر الإسلام بالنصر والظفر، وهو من شعب الإيمان وشرط من شروطه كما يتضح من حديث رسول الله : (.. ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما فى يد الله أوثق منه بما فى يديه ..).

4- تعليمه لصحابته ثبات العقيدة رغم التعرض للأذى: وهو ظاهر فى قوله : وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.

5- تحذيره لأصحابه من الاستعجال أو العجلة فى الأمور والتى هى من العقبات فى طريق السير والتزكى وهو فى قوله : ﴿وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ﴾.

عود إلى الآية الكريمة:

قال ابن كثير فى تفسير القرآن العظيم: يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ وهى: الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومُرّة الهَمْدانى والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسّدى ومقاتل بن حَيّان ﴿الْبَأْسَاءُ﴾ الفقر. قال ابن عباس ﴿وَالضَّرَّاءُ﴾ السّقم ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا.

قلت: وهذا هو ما قلنا عنه أنه الخوف على دين الله والتقصير فيه أما الأعداء. وهذا بعض من معنى قوله (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) و لا مناص من الصبر ولا مهرب، وقال أحد المشايخ: لاحيلة فى أحوال الزمن إلا الصبر، ويقول الإمام فخر الدين فى ذلك:

يَا بَاغِياً بَابَ الْوُصُولِ إِلَى الْحِمَى    هَلاَّ صَبَرْتَ عَلَى يَسِيرِ بَلاَئِى

وما بين الصبر والجنة ميادين وميادين نستطيع أن نختزلها فى كلمة واحدة هى "التربية" وهى عند الصوفية مبنية على إزعاج النفس الأمارة بالسوء حتى تفيء إلى أمر الله، ويكون هواها تبعا لما جاء به سيدنا رسول الله . وفي هذا يقول الإمام أحمد ابن عجيبة فى كتابه إيقاظ الهمم فى شرح الحكم "أراد الحق تعالى أن يزعجك عن كل شيئ من هذا العالم حتى لا تركن إلى شئ ولا يشغلك عن شهود شيئ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه أو تحبه وتحب معه سواه، أبت المحبة أن تشهد غير محبوبها فإذا تمكنت المحبة وكمل الشهود ردهم أن شاء إلى عباده مرشدين إليهم بالله".

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى "اهرب من خير الناس أكثر من أن تهرب من شرهم فإن خيرهم يصيبك في قلبك وشرهم يصيبك في بدنك وأن تصاب فى بدنك خير من أن تصاب فى قلبك، ولعدو تصل به إلى الله خير من حبيب يقطعك عن الله"، وقال "وتسليط الخلق على أولياء الله فى مبدأ طريقهم سنة الله فى أحبائه وأصفيائه" وقال فى حزبه "اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا" ... ثم قال "ومما يدلك على أن هذه سنة الله فى أحبائه وأصفيائه قوله تعالى: ﴿وزلزلوا حتى يقول الرسول﴾ ... الآية، وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى" انتهى .

وقال بعض العارفين: ويجب أن تعلم أن النفوس شأنها استحلاء الإقامة فى موطن العز والرفعة فلو تركها الحق سبحانه لهلكت فأزعجها عن ذلك بما سلط عليها من أذى المؤذيين ومعارضة الجاحدين وفى هذا المعنى قال الإمام الشافعى:

عداتى لهم فضـل على ومنة          فلا أبعد الرحمن عنى الأعاديـا

هموا بحثوا عن زلتى فاجتنبتها     وهم نافسونى فاكتسبت المعاليا

قلت: والآية فيها الصبر بمرارته والجنة بحلاوتها، وإن شئت فقل الجلال والجمال، وهذا على سبيل الترغيب والترهيب، وما أجمل قول سيدى أبى بكر الصديق "إن الله قرن وعده بوعيده لكى يكون العبد راغبا راهبا"، ومن الأولياء والمحققين والعلماء الأعلام من يفسر القرآن على هذا النحو، ومنهم الإمام محيى الدين ابن عربى حيث قال فى هذه الآية ﴿أم حَسِبْتم أن تَدْخلوا﴾ جنّة تجلّى الجمال ﴿ولما يَأْتكم﴾ حال ﴿الذين﴾ مضوا ﴿من قَبْلكم مستهم﴾ بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار, وضرّاء المجاهدة والرياضة وكسر النفس بالعبادة ﴿وزلزلوا﴾ بدواعى الشوق والمحبة عن مقارّ نفوسهم ليظهروا ما فى استعدادهم بالقوّة ﴿حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نَصْر الله﴾ أى: حتى تضجروا من طول مدّة الحجاب, وكثرة الجهاد من الفراق, وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال, وذوق الوصال, وطلبوا نصر الله بالتجلى على قمع صفات النفوس مع قوة مثابرتهم, وحسن تحملهم, لما يفعل المحبوب ويريد بهم من ابتلائهم بالهجران, وإذاقتهم طعم الفرقة لاشتداد قوة المحبة, فكيف بغيرهم؟ فأجيبوا إذا بلغ جهدهم ونفدت طاقتهم وقيل لهم ﴿ألا إنّ نصر الله قريب﴾ أى: رفع الحجاب وظهرت آثار الجمال. انتهى.

والخلاصة أن هذه الآية تمتدح الرسول الكريم ببعض صفات من مكارم أخلاقه التى بعث ليتمها ألا وهى الصبر والحلم والأدب مع الله، وتصف امتحان الله له ولأصحابه المؤمنين حتى استحقوا نصر الله، كما تصف حب الله لهم وحنوه عليهم، وكيف أن سنة الله فى خلقه أن يكون بعد العسر يسر وبعد الضيق فرج، وحتى يعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وكما قال المصطفى (لا تملوا الفتن فإنها حصاد المنافقين).

فاللهم قرب أوان نصرنا على أنفسنا وأعدائنا يا معز يا عزيز يا ناصر يا قوى يا متين.

د. إبراهيم الدسوقى

 

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير