كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

 

الهوى

الهوى: هو ملك المملكة الثانية التى تقطن القلب والقلب كما أوضحنا متقلب لا يثبت على حال واحد وقال (ألا إن فى الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله آلا وهى القلب) البخارى ومسلم، وقال أيضا (ما من عبد إلا وله أربع أعين عينان فى رأسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان فى قلبه يبصر بهما أمر دينه) روح البيان، وقال عز من قائل ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ﴾ الحج 46:22، فإذا غفل الإنسان عن الذكر ولم يسلك على يد ولى مرشد ومال لإتباع مزاجه وهواه فليس له سبيل لفلاح.

وفى هذه الحالة تعمل عيون القلب لحساب الهوى ويتوجه القلب إلى كل شئ دنىء فتعمى عين (بالهم) وتنشغل بالدنيا وينقسم الهم إلى: وهم أو فهم أو درهم، فإن سيطر عليها الفهم فيكون فكره إماما له فلا يتقبل النصيحة ولا يرضى بالمشورة واعلم أن الهم يكون مصحوبا بالأمل وكل يوم يمر به لم ينل فيه أمله يزداد همه والإمام على يحذرنا بقوله: إياكم والأمل فى غير الله فإنه ينسى الذكر ويسهى العقل فالأمل غرور وصاحبه مغرور فأكذبوه، واسمع أيضا إلى قوله تعالى ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الحديد 16:57، وتعمل العين الأخرى من عيون القلب (بالسفاهة) فيكون القلب متوجها إلى الشهوات والملذات ويقول فى ذلك الإمام فخر الدين:

خلف الأعراب شغلا بالدنايا       من يصلهم إن قطعنا تاركين

ويقول أيضا:                    ولا تك مهموما فما الله غافل   ولا تك عبدا ذا قضاء الفوائت

ويقول أيضا:                    والزيغ يهدى للفجور وللهوى      والله يأبى أن يسود المعتدى

ولذا يقوم ملك الهوى باستعمال الأنفس السبعة كوزراء لإدارة شؤون العينين ويستعين بإبليس وجنوده فى التنفيذ المباشر فيستخدم المال والنساء وحب الرياسة والوجاهة والتعالى فى تنفيذ مخططاته وقد قال تعالى فى كتابه الكريم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ الأنفال 28:8، وقال أيضا ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ آل عمران 14:3، وقال يوصى ابن عمر (كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) البخارى ومسلم، وقال الإمام فخر الدين:                            يامن استغنى بدنيا            إن ميت الشاة شحم

وكل ما سبق من آى وحديث وأبيات ورد فى ذم الدنيا ولم نرى لها مندوحة واحدة فى الكتاب أو السنة أو أقوال الصالحين.

أما عن إبليس فقد أقسم بعزة الله على غواية الخلق أجمعين إلا المخلصين وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ • إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ • قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ • إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الحجر 15: 39-42.

ثم لتعلم هداك الله أن هناك فتحة فى الظهر فى مقابل القلب تسمى فتحة إبليس وهى التى كانت مغلقة عند رسول الله بخاتم النبوة، والنبى قال (لولا الشياطين يحومون بقلوب بنى آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض) وفى رواية (لرأوا العجائب) معارج القدس، فيرسل إبليس أحد جنوده من شياطين الجن والقرائن فيضع إصبعه فى هذه الفتحة فيقلب القلب فيمرره على خواطر النفس فيمر هذا الخاطر من خزانة الخيال فى مؤخرة الرأس إلى المخيلة ومنها إلى المصورة فتنقل هذه الصورة نصب عينيه فيشغل بها الإنسان ويسعى وراء تحقيقها فيقع فى الزنى أو السرقة أو ما شاكل ذلك من الذنوب وهذه الخواطر لا تتوقف لحظة وبها يصير هذا الإنسان عبدا للسفاهات وقد وصفهم الحق بقوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ • أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ البقرة 2: 11-12.

أما إذا كان هذا الإنسان مشغولا بجمع المال وليس له هم إلا ذلك ويبخل بإنفاقه حتى على نفسه وأهله أو فى سبيل الله، صار عبدا للدرهم.

وإذا كان ذا علم جمعه من الكتب يوهمه إبليس ويلقى إليه الشبهات عن طريق الخواطر فيظن أنه جمع فأوعى، ويكون ضلاله بوقوفه عند حد الظاهر من الألفاظ فيكون عبدا للوهم.

وإذا كان صاحب فكر أو رأى توهم فيه حتى صار قاعدة عنده وأصبح يقيس عليها كل مخلوق بل قد يجترئ على الخالق بفهمه ويظن أنه صاحب حكمة وغاب عنه أن الحكمة هى باطن العلم الذى يأتى من لدن الله فيكون بذلك عبدا للفهم أمثال الفلاسفة.

ولذلك قال رسول الله فى الصحيح عن أبى هريرة: (تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة؛ إنْ أُعطىَ رضى، وإن لم يُعْط سخِط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتَقش) البخارى وفى رواية أخرى: (تعس عبد الدنيا وتعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة).

ويقول الإمام فخر الدين :

تعسا لعبد الفهم بئس إناؤه                  من ناضح بالرى للظمآن

تعسا لعبد الوهم ضل وما اهتدى         ضل الطريق وباء بالخسران

يابئس عبد المال مالت رحله                 وبنت غشاوته بناء فانى

كل ذلك ينتج من سيطرة ملك الهوى على القلب مستعينا بوزرائه من الأنفس وجنوده من الدنيا والشياطين برئاسة إبليس والحق يقول ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى • وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ الأعلى 87: 14-15، والتزكى هنا يكون بذكر الإسم "الله" والصلاة على النبى المختار، ولا يمكن فى هذه الآية أن تكون نافلة الذكر قدمت على فريضة الصلاة، فتكون الصلاة هنا نافلة أيضا وهى الصلاة على النبى ، هذه واحدة، أما الثانية: فإن الآيات التى تتحدث عن فريض الصلاة قد سبقت بالإقامة، مثل قوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ البقرة 43:2، وقوله أيضا ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ البقرة 3:2، وقوله أيضا ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِى﴾ طه 14:20، وقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ البقرة 277:2، وقوله ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ إبراهيم 31:14، أما قوله تعالى ﴿قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى﴾ فالفاء هنا سببية أى أن ذكر "الله" كان سببا فى هذه الصلاة والأمر الذى ورد فيه "صلوا" صريحة بغير إقامة قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب 56:33، من أجل ذلك قال تعالى ﴿فصلى﴾ تنفيذا لإتباع ما سبق من الأمر بالصلاة على النبى .

فاعلم يا أخى أنه لا بد من فتح باب الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس ولا بد من غزو ملك الروح لمملكة الهوى فى القلب وجعله تبعا لما جاء به النبى كما يقول المصطفى (والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) النووى وبلوغ المرام، فتتحول عينا القلب بدلا من إنشغالها بالهم إلى الهمة وهى شدة محبة النبى وآل بيته فقد وضع رسول الله يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء) البخارى، دليلا على علو همته، وكانت نتيجة همة سيدنا سلمان أن نال شرف الإضافة لأهل بيت النبوة فقال فيه : (سلمان منا آل البيت) ابن سعد والطبرانى والحاكم وابن عساكر. والعين الأخرى التى كانت تشتغل بالسفاهة تتحول إلى الفراسة إذ يقول الحبيب : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) الترمذى وابن جرير.

وبذلك يتبدل حال القلب فتتبدل الصفات النفسية التى كانت فيه إلى الصفات الربانية وهى كونه (سميعا بصيرا قادرا حيا مريدا متكلما عليما) وذلك مصداقا للحديث القدسى (كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى عليها) البخارى.

وإلى العدد القادم ...

مجموعة المرشد الوجيز