الغيرة

 

قال الله تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ الأعراف 7: 33. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (ما أحدٌ أغير من الله تعالى، ومن غيرته حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن). وحدَّث أبا هريرة أن رسول الله قال (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله تعالى: أن يأتى العبد المؤمن ما حرَّم الله عليه).

والغيرة: كراهية مشاركة الغير، وإذا وُصف الله سبحانه بالغيرة، فمعناه: أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له تعالى من طاعة عبده له.

حُكى عن السرىّ السقطى أنه قُرِئ بين يديه ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ الإسراء 17: 45. فقال السرىّ لأصحابه: أتدرون ما هذا الحجاب؟! هذا حجاب الغيرة، ولا أحد أغير من الله تعالى. ومعنى قوله "هذا حجاب الغيرة" يعنى: أنه لم يجعل الكافرين أهلاً لمعرفة صدق الدين. وكان أحدهم يقول: إن أصحاب الكَّل عن عبادته تعالى هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخلالان. فأختار لهم البعد عنه، وأخَّرهم عن محل القرب؛ ولذلك تأخروا.

وقيل لبعضهم: تريد أن تراه؟ فقال: لا، فقيل: لِمَ؟ فقال: أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلى.

وفى معناه أنشدوا:

إنى لأحسدُ ناظرى عليكا          حتى أغض إذا نظرت إليكا

وأراك تخطر فى شمائلك التى    هى فتنتى فأغار منك عليكا

وسئل الشبلى: متى تستريح؟ فقال: إذا لم أر له ذاكراً.

وكان أحدهم يقول: فى قول النبى فى مبايعته فرساً من أعرابى، وأنه استقاله فأقاله، فقال الأعرابى: عمرُك الله تعالى، ممن أنت؟ فقال له النبى : أمرؤ من قريش. فقال بعض أصحابه من الحاضرين للأعرابى: كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك! قال: إنما قال امرؤ من قريش غيرة، وإلا كان واجباً عليه التعرف إلى كل أحد: أنه من هو؟ ثم إن الله؛ سبحانه، أجرى على لسان ذلك الصحابى التعريف للأعرابى يقول: كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك! من الناس من قال: إن الغيرة من صفات أهل البداية، وإن الموحد لا يشهد الغيرة، ولا يتصف بالاختيار، وليس له فيما يجرى فى المملكة تحكم، بل الحق سبحانه، أولى بالأشياء فيما يقضى على ما يقضى. وكان أحدهم يقول: الغيرة عمل المريدين، فأما أهل الحقائق فلا. وكان الشبلى يقول: الغيرة غيرتان: غيرة البشرية على النفوس، وغيرة الإلهية على القلوب.

وقال الشبلى أيضا: غيرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله تعالى، والواجب أن يقال: الغيرة غيرتان: غيرة الحق، سبحانه، على العبد: وهو أن لا يجعله للخلق، فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق، وهو أن لايجعل شيئاً من أحواله وأنفاسه لغير الحق تعالى فلا يقال: أنا أغار على الله تعالى، ولكن يقال: أنا أغار لله، فإذن الغيرة على الله تعالى جهل، وربما تؤدى إلى ترك الدين؛ والغيرة لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال له.

واعلموا أنًّ من سنة الحق، تعالى، مع أوليائه: أنهم إذا ساكنوا غيراً، أو لاحظوا شيئاً، أو خالطوا بقلوبهم شيئاً، شوَّش عليهم ذلك، فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه، فارغة عما ساكنوه أو لاحظوه أو خالطوه، كآدم لمَّا وطن نفسه على الخلود فى الجنة أخرجه منها. وإبراهيم لما أعجبه إسماعيل أمره بذبحه حتى أخرجه من قلبه فلما أسلما وتله للجبين وصفا سره منه أمره بالفداء عنه.

وكان أحدهم يقول: بينا أنا أدور فى جبل لبنان، إذ خرج علينا رجل شاب قد أحرقته السموم والرياح؛ فلما نظر إلى ولى هارباً، فتبعته، وقلت له تعظنى بكلمة؟ فقال لى: احذر، فإنه غيور، لا يحب أن يرى فى قلب عبده سواه. وقيل: أوحى الله، سبحانه، إلى بعض أنبيائه: أنَّ لفلان إلى حاجة، ولى أيضاَ إليه حاجة، فإن قضى حاجتى قضيت حاجته؛ فقال ذلك النبى فى مناجاته: إلهى؛كيف يكون ذلك حاجة؟ فقال: إنه ساكن بقلبه غيرى فليفرغ قلبه عنه أقض حاجته. وقيل: أن أبا يزيد البسطامى رأى جماعة من الحور العين فى منامه فنظر إليهن، فسلب وقته أياماً، ثم إنه رأى فى منامه جماعة منهن، فلم يلتفت إليهن وقال: إنكنَّ شواغل.

وقيل: مرضت رابعة العدوية، فقيل لها: ما سبب علتك؟ فقالت: نظرت بقلبى إلى الجنة فأدبنى، فله العتبى، ولا أعود. ويحكى عن السرى أنه قال: كنت أطلب رجلاً صديقاً لى مدة من الأوقات فمررت فى بعض الجبال: فإذا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى، فسألت عن حالهم، فقالوا: هاهنا يخرج فى السنة مرة يدعو لهم فيجدون الشفاء، فصبرت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء، فقفوت أثره وتعلقت به، وقلت له بى علة باطنة فما دواؤها؟ فقال: يا سرى، خلِّ عنى، فإنه - تعالى - غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه.

وسمع النورى رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، وسمع كلباً ينبح فقال: لبيك وسعديك. فقيل له: إن هذا تركٌ للدين؛ فإنه يقول للمؤمن فى تشهده طعنة وسم الموت، ويلبى عند نباح الكلاب، فسئل عن ذلك فقال أما ذلك فكان ذكره لله على رأس الغفلة، وأما الكلب فقال تعالى "وإن من شيء إلا يسبح بحمده".

عبد الستار الفقى

 

 

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير