كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

النفس الملهمة

هذه النفس لها من الصفات الحميدة الكثير كالسخاء والتواضع والقناعة والصبر وتحمل الاذى والعفو عن الناس وقبول أعذارهم وسميت ملهمة لأن الله ألهمها الفجور والتقوى والحق يقول فيها {ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقوها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} وهذه النفس فى هذا المقام تسمع بغير آلة لمة الملك ولمة الشيطان لانها قبل هذا لاتسمع، فكانت قريبة من مقام الحيوانات ولانها ملهمة الفجور والتقوى كان هذا المقام خطر لانك لاتستطيع أن تميز بين الجلال والجمال ولابين ماألقاه الملك وماألقاه الشيطان ويخشى عليك لانك لم تتخلص من الطبيعة البشرية بالكلية فان غفل الذاكر عن نفسه يهوى به إلى سجين أعاذنا الله منها فيرجع إلى المقام الاول وهى النفس الأمارة وربما يفسد اعتقاده ويترك الطاعات ويرتكب المعاصى وتظهر نار الطبيعة على قلبه فتحرق ماكان فى قلبه من نور الإيمان ويصيرشيطانا ضالا لاحت له خيالات شيطانية فظن أنها تجليات ربانية بعد أن كانت بشريته قد رقت وروحانيته قد قويت ومابقى إلا القليل حتى يدخل حضرة الملك الجليل فعليك بالاتباع وان سولت لك نفسك أنك أرقى من غيرك فلابد من ملازمة الشيخ وعدم الخروج عليه بأى حال من الأحوال وهذب نفسك بآداب الطريقة واحذر من التعالى على إخوانك حتى تصل إلى المقام الرابع الذى تسمى فيه بالنفس المطمئنة لانه يحصل لك قبل ذلك تلوين فالاطمئنان معناه التمكن من كل صفة ذميمة فلا تلتفت إلى مالاح لك من بوارق الحضرات العالية لانها تكون سببا لعودتك إلى المقام الاول فانها تمنعك من التقرب إلى حضرة الاحدية.

واعلم يا اخى أن المقام الثالث جامع للخير والشر فإن غلب الخير على الشر ترقيت إلى المقامات العالية وان غلب شرها على خيرها نقلتك إلى سجين وعلامة غلبة الخير على الشر أن ترى باطنك معمورا بالايمان وعقيدتك سليمة وقوية ليس فيها خلل ولاشك فى أى أمر من أمور الطريقة وظاهرك معمورا بالشريعة وتتصف بكل خلق حميد تسعى لخدمة الاخوان غير مقصر فى أذكارك وأورادك ومراقبتك كل هذه الصفات الخارجة أكبر دليل على سلامتك من الافتتان وتكون على يقين بأن كل مايحدث من أمور الطريقة على وفق إرادة الله تعالى، لهذا تسلم من هذا الموطن وقال شيخنا :

ولست بناء عن مريدى لحظة        لان مريدى من أراد إرادتى

وقالوا:

سيكون الذى قضى     سَخِطَ العبد أم رضى

فدع الهم يافتى     كل هم سينقضى

قال المريد لمن يريد     ذر ما تريد لما أريد

فإذا أردت أرادتى     ظفرت يداك بما تريد

ولان أردت ولا أريد     فنيل من تهوى بعيد

أو ليس من لؤم المحــبة أن تريد ولا أريد

وقال :

ولا تك مهموما فما الله غافلا     ولا تك عبدا ذا قضاء الفوائت

وقال أيضا :

وإنى قاض ماقضى الله فيكم        بنانى خطت والخواتم صكت

وأما غلبة الشر على الخير فهو ان يكون الايمان قوى فى قلبك وعقيدتك سليمة ولكن لايكون ظاهرك معمورا بالشريعة فتترك الطاعات وترتكب المخالفات وتكون كثير المجادلة والمخالفة لكل رأى يعرض عليك وكل ذلك راجع لان المريد لما رأى وتيقن من أنوار الايمان رأى أن أفعاله كلها جارية على وفق إرادة الله تعالى فاحتجب بقوة الإيمان وبنوره عن أسرار الشريعة فأعطى لنفسه الاطمئنان لما يراه من شدة تعلقه بهذا النور وغفل أن الشيخ عنده ميزان وهو القسطاس المستقيم لان الاستقامة مع الشيخ تتطلب الحذرالشديد والخوف فلا تأمن لقربك منه ولا لبعدك عنه وسلم إليه الأمر فإنه الوحيد الذى يعلم مكر هذه النفوس وضع دائما أمام نفسك قول الشيخ:

وغاية القصد حسن القصد لا عوج      ووحدة الصف عندى عمدة الدين

فإياك أن تترك البدايات فإذا تركت الاول أعنى بها الصلاة والصوم والزكاة والأوراد واعتمدت على قوة ايمانك قد يفسد هذا الايمان بعد فترة فإذا لم تصون الاول لاتكون أهلا لان تصون الأخر لان الأواخر أمرها عزيز، واعلم انك مازلت فى بداية الصعود لنيل المطلوب وفى هذه الحالة يتغلب الشر على الخير فتخسر الدنيا والأخرة واعلم انه فى هذا المقام يحدث للانسان فناء يسموه الفناء الأول فحال هذا الفناء هو عبارة عن حالة تعرض على السالك تغيبه عن درك كل مرئى غيبة ذهول لاغيبة اغماء فتفقد كل حاسة محسوسها فهى تحس ولاتحس والعين ترى ولاترى ولكن هذا الحال أرقى من الحال الذى كان قبله فحاله كحال رجل أصيب بمصيبة فمر فى تلك اللحظة على صاحب له ولم يسلم عليه فقال له لاى شئ تمر بى ولاتسلم على فيقسم له أنه مارآه، كل ذلك من عظم هذه الحالة وكذلك الاذن تسمع ولكنها لاتسمع ولايعرف هذه الحالة إلا من اتصف بها، فهذه معرفة يقابلها جهل ولذلك قالوا (أوقفنى وقال لى اعرفنى بالمعرفة إلى لايقابلها جهل) فان المعرفة التى يقابلها جهل جهل فإذا انصرف عنك هذا الحال رجعت إلى إحساسك وفهمت كل ماألقوه فى روعك فإذا تكلمت نطقت بالحكمة والنبى صلى الله عليه وسلم يقول (من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ويقول الشيخ :

وأنفخ فى روع المريد فينتقى       جواهر علم الاولين بنفختى

والمقام الثالث كما قلنا محل التلبيس لايفرق السالك فيه بين مايلقيه الملك أو مايلقيه الشيطان وقد قيل للامام الجنيد : لقد وصلت إلى الله فأى غرض لك من السبحة فقال : شئ أوصلنى إلى مطلوبى كيف أتركه.

فترك الأوائل خطر فلا تترك الاشياء التى تأكدت أنها خير محض كالمراقبة وغيرها فان النفس أعدى أعدائك فلاتأمنها. وقالوا ان هذا هومقام العشق، والعشق ذاته حجابا عن المعشوق رغم ان حالة العشق حالة مقبولة عند العاشقين وان كانت بالنسبة إلى مافوقها من الحالات المذمومة لان العاشق ذاهل مع نفسه وكل ذلك يتأتى اليه فى حالة البسط أما حالة القبض عنده فيضيق صدره ويكاد قلبه أن ينخلع من صدره فيذل ويخضع خضوعا حقيقيا ويظل هكذا إلى ان يترقى إلى المقام الرابع فيهدأ عشقه ويتبدل القبض والبسط بالهيبة والانس وتوضيح ذلك ان الفرق بين القبض والهيبة والبسط والانس ان القبض تضيق منه النفس والهيبة ليست كذلك والبسط يغلب على صاحبه حتى يخشى عليه أن يسئ الأدب مع الشيخ، أما الانس ليس كذلك ولتوضيح ذلك أكثر ففى المقام الاول نسميه خوفا ورجاء يترحل من هذا المقام نسميه قبضا وبسطا فالخوف يقابل قبض والرجاء يقابل بسط يترحل من هذا المقام نسميه هيبة وانس، فالقبض يقابله هيبة والبسط يقابله انس يترحل من هذا المقام نسميه جلال وجمال فالهيبة يقابلها جلال والانس يقابله جمال وعادة حالة القبض فى مقام الروح والروح لها الاطلاق ففى ساعات القبض تريد أن تكسر قفص الجسد لتتصل بعالمها ولكنها لاتستطيع فاصبر على هذه الحالة واعلم أنه قد لايحدث أى شئ من هذا لصدق توجهه لانه لو كشف بشئ وهو فى البداية كان متعرضا للعطب والقطيعة وهذه الامورالدقيقة لايعلمها إلا الخبير بالانفس وقال : (موتوا قبل أن تموتوا) وقال أيضا : (من أراد أن ينظر إلى ميت يمشى على وجه الارض فلينظر الى أبى بكر الصديق) وهذا هو الموت الارادى وهو حال الفناء الذى بيناه فى المقام الثالث فالميت يكشف له عن عالم البرزخ وهذا السالك يكشف له أيضا عن عالم المثال وهوشعبة من عالم الملكوت.

مجموعة المرشد الوجيز