كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

 

التخلق بأخلاق النبى

وكما ذكرنا سابقا مراتب الدين والأعمال فيهل ولكن الأمر لا يقتصر على الدين من حيث الأعمال فى مرتبة الإسلام من التكاليف الشرعية والوقوف عندها، فإن الأمر الذى غفل عنه الكثير هو التخلق بأخلاق المصطفى خاصة أن الدين ليس تعلقا ولكنه تخلق وقد أخبر الصادق المصدوق وآله بهذا الأمر بقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقال أيضا: (تخلقوا بأخلاق الله) وقد ميز الإمام فخر الدين الأخلاق النبوية فقال : هى أربع مراتب من مراتب الإحسان، أولها: التوفيق ﴿وماتوفيقى إلا بالله﴾. ثانيها: التفويض ﴿وأفوض أمرى إلى الله﴾. ثالثها: التوكل ﴿توكلت على الله﴾. رابعها: التسليم ﴿أسلمت وجهى لله﴾.

فاعلم هداك الله أن الأمر عزيز وليس كما يدعى أصحاب الرأى والهوى، فالسؤال الذى يطرح نفسه الآن كيفية التخلق بأخلاق النبى وهل يوجد مدخل من حيث ظاهر الأمر التشريعى فى المرتبة الأولى من صلاة وصوم وزكاة وحج؟

نعم: فلا بد لكل مسلم أن يعلم أن لكل أمر تعبدىّ أمرنا به الحق لا بد له من حقيقة فإذا كان الإحسان ختم المراتب وهى الأربع مراتب التى ميزها الشيخ والتى تتعلق بأخلاق النبى وكان التسليم آخرها فقد أمرنا الحق بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وكان الإنسان أكثر شئ جدلا﴾ فهو يطالبنا بالتسليم وقال عز من قائل ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ وقال أيضا ﴿صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ وقال سيدنا أنس بن مالك لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله عرفنا التسليم لك، فكيف نصلى عليك. فالحق يطالبنا بأن نسلم وأن نتخلق بإخلاق النبى ، فكان لابد من وجود مدخل ومظهر لهذه الأخلاق، فكما قلنا سابقا أن الإسلام عمل بالجوارح فلا يصح إسلام المرء إلا إذا نطق الشهادة باللسان وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، والشرط هنا باللسان وهو جارحة من جملة جوارح الجسد وهذا هو الركن الأول من أركان الدين والذى لا يصح بدونه صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج. فكل العبادات أساسها هذا الركن ومن المعلوم أيضا أن كل العبادات فى هذه المرتبة أعمال بدنية وهو دين الله ودين الله أحق بالأداء فظهر لنا من خلال هذه الأركان مظهر للدخول على التخلق بأخلاق النبى والتأدب معه فكان لكل ركن من هذه الأركان نافلة، فما زاد على الركن نسميه نافلة، وهذه النافلة هى فعل رسول الله وهى ظل الفرض والظل عادة يكون على صورة ما ظهر منه وإن لم يكن مثله، فإذا كان لكل ركن من هذه الأركان نافلة، فأين نافلة الركن الأول وهو: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فكان واقع الأمر أن نافلة هذا الركن هى ذكر الإسم (الله) والصلاة على النبى فكما أن الشهادتين باب وأساس لقبول وصحة الصلاة والزكاة والصوم والحج، كذلك يكون قياسا أن ذكر الاسم (الله) والصلاة على النبى باب لقبول أى نافلة وقد قال الإمام فخر الدين: النافلة فى حق رسول الله نافلة وفى حق غيره جبر للفرض، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ومن الليل فتهجد به نافلة لك﴾ فكما وضح لنا مما سبق أن الإسلام كله أعمال بدنية حتى أن الذنب فيه أيضا بدنى، فصاحب هذه المرتبة مطالب بالذكر وبالصلاة على النبى بإعتبارهما نافلة الركن الأول وبدونهم يصعب التأسى برسول الله والتخلق بأخلاقه، ومن الغريب الشديد أن الحق أمرنا بالذكر فى أكثر من عشرين آية فى كتابه الكريم فإذا كانت العبادة فى الإسلام بدنية، كان العمل بالنوافل بدنى أيضا، فيذكر باللسان ويستغفر باللسان ويقرأ القرآن باللسان لأن العمل بالجوارح من باب التذكر وليس من باب مطلق الذكر ولتوضيح هذا الأمر نقول: أن هناك ذكر مطلق. وذكر مقيد أو ذكر تذكر، ولكى نميّز بينهما يقول الحق سبحانه وتعالى ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر "الله" وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم "آياته" زادتهم إيمانا﴾ فوقع التمييز بين آيات القرآن وبين ذكر الاسم (الله) وقال سبحانه وتعالى ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر "الله" و"إقام الصلاة" و"إيتاء الزكاة"﴾ فوقع التمييز أيضا بين ذكر الاسم (الله) وبين الصلاة والزكاة وكذلك فى الحج بقول تعالى ﴿ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم "الله" فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾، وقال أيضا ﴿وإذا أفضتم من عرفات فاذكروا "الله" عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين﴾ وقال أيضا مثل ذلك فى الصوم، وعلى ذلك يتضح لنا التمييز بين كون الفريضة ذكر مقيد، أو من باب التذكر، فإن الفريضة والنافلة بابان لا ينفكان للدخول إلى مطلق الذكر، واعلم أيضا أن الذكر المطلق نعت إلهى وأن لكل فريضة جزاء وحساب، فما هو جزاء الذكر المطلق؟ اسمع إلى قول الحق ﴿فاذكرونى أذكركم﴾ فكأنه سبحانه وتعالى فى هذه الآية جعل وجود ذكره عن ذكرنا إيّاه وكذلك حال ذكره فقال تعالى فى الحديث القدسى: [إن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه] فكان ناتج الذكر ذكر وحال الذكر كذلك فإن ذكر الإسم (الله) معرّى عن أى شئ فترتفع فائدته من حيث دلالته على الذات، وهو بذلك يكون غير مقيد أى منقطع النظير وهذا هو معنى التبتل بذكره، دون طلب لمنفعه أو دفع لمضره. فإذا قيدته بلا إله إلا الله لا تأخذ منها إلا ما تعطيه هذه الدلالة من حيث لفظه، وإذا قيدته بسبحان الله فلا تأخذ إلا ما تعطيه حقيقة التسبيح، وكذلك الله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كذلك الصلاة والصوم والزكاة والحج، كل ذلك ذكر مقيد من باب التذكر ولا ناتج له إلا بما تقيد به، أما ذكر الإسم (الله) فإنه جامع لكل الفضائل اللائقة به سبحانه وتعالى ومن ثم فإن الحق جل وعلا ما وصف عبادة بالكثرة إلا بهذا الإسم خاصة فقال عز من قائل ﴿الذاكرين الله كثيرا والذاكرات﴾ وقال ﴿اذكروا الله ذكرا كثيرا﴾ وقال ﴿اذكروا الله فى أيام معدودات﴾ ولم يحدد لنا وقال ﴿اذكروا اسم الله عليها﴾ ولم يحدد لنا أيضا وقال ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ ولم يقل بكذا، ومع كونه جامع لكل الفضائل أى أنك إذا قلت "الملك" فلا يسعك إلا أن تقول "الله" وإذا قلت "الصبور" فلا يسعك إلا أن تقول "الله" وهكذا فى جميع الأسماء الحسنى وكذلك فى جميع أسمائه التوقيفية كا"الحنان" فلا يسعك إلا أن تقول "الله" و"المنان" كذلك وإذا أردت زيادة فى ذلك فارجع إلى كتب الإمام فخر الدين.

وعلى ذلك فإن نافلتا الذكر والصلاة على النبى هما أعلى النوافل باعتبارهما خاصين بالركن الأول من أركان الإسلام. ومن شدة ترغيبه قال: (من صلى علىّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرة ومن صلى علىّ عشرة صلى الله عليه بها مائة ومن صلى علىّ مائة صلى الله عليه بها ألف ومن صلى علىّ ألف لن تمسه النار) وقال أيضا: (من نسى الصلاة علىّ فقد أخطأ طريق الجنة) ولقد روى عن سيدنا عبد الله بن عباس عندما سئل عن قوله تعالى ﴿فاذكرونى أذكركم﴾ قال:

الذكر أعظم باب أنت داخله      بالله فاجعل له الأنفاس حراس

وإلى العدد القادم ...

مجموعة المرشد الوجيز