يوحى إلى

يقول الحق تبارك وتعالى ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى﴾ وقد يتبادر إلى ذهن أحدنا أن هذا شيئ يسير ولكن لنعرف أن ذلك عظيم يتطلب خلقة خاصة ونوع فريد من البشر، وكما يقول الإمام البوصيرى:

ومبلغ العلم عنه أنه بشر    لكنه فى الورى ما مثله بشر

ودعونا نسمع ما رواه الصحابة من دلائل النبوة فى ذلك الوحى:

عن ابن عباس فى قوله ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم﴾ قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحى، وكان إذا نزل الوحى سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلى الكبير، ثم يقول: يكون العام كذا، ويكون كذا، فيسمعه الجن فيخبرون الكهنة به، والكهنة الناس يكون كذا وكذا، فيجدونه كذلك فلما بعث الله محمدا دحروا ... الحديث، فانظر كيف تصعق الملائكة بنزول الوحى عليهم فلا يتحملونه، ثم لا يعونه إلا بعد أن يفزع عن قلوبهم، فكيف بالنبى الذى كان ينزل عليه الوحى فيخبر به الناس فى حينه.

وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله وهو يحدث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه (فبينا أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسى فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت زملونى زملونى فدثرونى فأنزل الله ﴿يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر﴾ - قبل أن تفرض الصلاة - وهى الأوثان) يقصد الرجز. رواه مسلم والبخارى وعبد الرزاق. أنظر قوله "فجئثت منه رعبا"

عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق  الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتى حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ. فقال رسول الله ، فقلت: (ما أنا بقارئ؟). قال: (فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ؟ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ؟ فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: ﴿اقرأ باسم ربك الذى خلق﴾ ... حتى بلغ ﴿ما لم يعلم﴾، فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال (زملونى زملونى) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال (يا خديجة مالى؟) فأخبرها الخبر، وقال (قد خشيت على) فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق ... الحديث. رواه مسلم والبخارى. أنظر قوله (فغطنى حتى بلغ منى الجهد)، لقد جهز الله رسوله بما لم يجهز به غيره من البشر فكان هذا هو التمييز فى قوله سبحانه ﴿يوحى إلى﴾.

وقال ابن شهاب: حدثنى سعيد بن المسيب وكان فيما بلغنا أول ما رأى أن الله أراه رؤيا فى المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها رسول الله لامرأته خديجة بنت خويلد بن أسد فعصمها الله من التكذيب، وشرح صدرها بالتصديق، فقالت: أبشر فإن الله لن يصنع بك إلا خيرا، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق، ثم طهر وغسل، ثم أعيد كما كان. قالت: هذا والله خير فأبشر، ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبى يقول (أجلسنى على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ) فبشره برسالة الله حتى اطمأن النبى ، فقال له جبريل، اقرأ. فقال (كيف أقرأ) قال ﴿اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم﴾ ويزعم ناس أن ﴿يا أيها المدثر﴾ أول سورة أنزلت عليه، والله أعلم. فانظر كيف أعده الله بشق صدره وغسله وتطهيره فأى من البشر مثل ذلك، بل هو متفرد على الأنبياء والرسل.

وعن عبد الله بن رباح فى حديث عن فتح مكة، قال: ثم انطلق - يعنى رسول الله - حتى أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت، وجعل يحمد الله ويدعوه والأنصار عنده يقولون: أما الرجل فأدركته رغبة فى قريته، ورأفة بعشيرته، وجاء الوحى، وكان الوحى إذا جاء لم يخف علينا، فلما رفع الوحى قال (يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة فى قريته، ورأفة فى عشيرته، كلا فما اسمى إذا - ثلاث مرات - كلا إنى عبد الله ورسوله، المحيا محياكم، والممات مماتكم)، فأقبلوا يبكون، وقالوا: يا رسول الله، والله ما قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله (إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم). فانظر كيف كان ينزل عليه الوحى وهو يتكلم فيتحمله ولا يحتاج لأن ينزل عن مقامه. وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله إذا أوحى إليه، لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه، حتى ينقضى الوحى. أخرجه مسلم فى نفس الحديث الطويل عن فتح مكة. فالصحابة الأجلاء لم يحتملوا مجرد النظر إليه فى حال الوحى.

وقال ابن إسحاق: حدثنى عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان بن العلاء بن جارية الثقفى، وكان واعية، عن بعض أهل العلم: أن رسول الله حين أراد الله كرامته وابتدأه، لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله خلفه وعن يمينه وعن شماله ولا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة وهى تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله ... الحديث، فانظر كيف عرفت بعثته كل المخلوقات إلا البشر !!

عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله (إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لأعرفه الآن) رواه مسلم. وعن على قال "لقد رأيتنى أدخل معه - يعنى النبى - الوادى فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله، وأنا أسمعه"، فانظر كيف كانت تسمع ذلك صحابته أيضا.

وعن عائشة أم المؤمنين أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ؛ فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله (يأتينى أحيانا فى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على؛ فيفصم عنى وقد وعيت ما قال: وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا؛ فيكلمنى، وأعى ما يقول)، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا. رواه البخارى فى الصحيح. فانظر شدته وطاقة الرسول على احتماله.

وعن عائشة أنها قالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله وهو على ناقته، فتضرب على جرانها - الجران: باطن العنق - من ثقل ما يوحى إلى رسول الله ، وإن كان جبينه ليطف بالعرق فى اليوم الشاتى، إذا أوحى الله إليه. تابعه معمر بن هشام فى أوله. فانظر كيف لم يحتمله البعير لمجرد أن الرسول يتلقاه وهو فوقه!

وعن عبادة بن الصامت: "أن النبى كان إذا نزل عليه الوحى كرب، وتربد وجهه" - وتربد: تغير لونه إلى حمرة فيها سواد لغضب أو كرب - وفى رواية ابن أبى عروبة "كرب لذلك، وتربد وجهه". أخرجه مسلم فى الصحيح.

وعن عبد الرحمن بن عبد القارى قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان رسول الله إذا نزل عليه الوحى، يسمع عنده دوى كدوى النحل، وذكر الحديث. وفى حديث أبى بكر: سمع عند وجهه كدوى النحل.

وعن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله ليلتين أو ثلاثة فجاءته امرأة، فقالت: يا محمد إنى أرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله ﴿والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى﴾ رواه البخارى فى الصحيح. وعن قتادة ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ وذلك يوم القيامة. وعن ابن عباس فى قوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ قال: من رضا محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. ويقول ابن كثير وقوله ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ أى: فى الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه فى أمته، وفيما أعدَّه له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذى حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه من مسك أذفر. وعن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله (إنا أهلُ بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.

ويقول حسان بن ثابت :

سمعنا فى الضحى ولسوف يرضى      فسر سماعنا ذاك العطاء

وحاشا يا رسول الله ترضى              وفينا من يعذب أو يساء

خالد محمد

 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير