كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

 

مملكة القلب ومملكة الروح

واعلم أن الكثرة فى الذكر لا تتم إلا إذا ترحل المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب ثم إلى الروح ثم إلى الإصطلام، فكان هذا هو الباب الوحيد للتخلق بأخلاق النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه باب للتطهر أولا ثم التزكى ثانيا فكان لزاما علينا التأسى به صلى الله عليه وسلم من حيث أفعاله والتى لا نستطيع حصرها خاصة وإنه نفى الإيمان عن كل من كان هواه خارجا عن إتباعه صلى الله عليه وسلم وأثبته لمن كان هواه تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم (والله لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) فكان الأمر الإلهى من أجل ذلك بداءة بالذكر قوله سبحانه وتعالى ﴿لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو ’الله‘ واليوم الآخر ’وذكر الله كثيرا‘﴾ ومن الغريب الشديد أن محبة الله ومحبة النبى صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم ومسلمة وهذه المحبة لا توجد ولا تباع ولا تشترى ولا يمكن الحصول عليها بالمال أو بالحيلة أو بالحال إنما توجد فى التقرب إلى الله من باب فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعنى بها النوافل وليس الفرائض كما جاء فى الحديث القدسى عن رب العزة فقد روى الإمام البخارى عن أبى هريرة والحافظ وأبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أن الله عز وجل قال (من آذى لى وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدى بشئ أفضل من آداء ما إفترضته عليه، وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجلها التى يمشى عليها ولإن سألنى أعطيته ولإن استعاذ بى لأعذته وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأكره مساءته).

فاتضح من هذا الحديث وما سبق ذكره أن الفرض لا يؤدى إلى حب الله لك، وإنما هو باب للتذكر والذكرى، وليس لمطلق الذكر، ولكن الذى يؤدى إلى حب الله لك إنما هى النوافل لأنها فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أجل ذلك كان إقبال الحق عليك وحبه لك. ونعود الآن إلى إيضاح مملكة القلب ومن هو رئيسها وما هى مملكة الروح. إسمع لقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون﴾.

من هم الشركاء المتشاكسون؟ هم إبليس، والدنيا، والنفس، ورئيسهم الهوى، فناتج هؤلاء الشركاء هو كل فعل قبيح أو ذميم يظهر به الإنسان. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى ﴿فيه شركاء﴾ ولم يقل له شركاء أو عليه شركاء.

فاعلم أن هذه هى مملكة القلب، وتطهيره فرض عين ولا بد من إخراج هؤلاء الشركاء. فكان لابد من الإستعانة بملك الروح والذى يسكن الجهة اليمنى من الصدر. وهذا الملك يطلب رضاء الله فى كل الأفعال، ويطلب وجه الله الكريم فى كل الأحوال، فيستعين هذا الملك بالنوافل والطاعات شريطة أن يكون ذلك بعد تأدية الفرائض لأن الفرض دين الله فإذا لم تؤدى الفريضة لا يكون للنافلة ظهور، فيحتاج هذا الملك إلى الوزير الأول وهو تأدية الفرض ثم الوزير الثانى وهو الذكر ثم الوزير الثالث وهو الصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم.

فلابد من ذكر الاسم "الله" لأن ذلك يعطيه الخشية والخوف فتعينك على أداء ما افترضه الله عليك والحق يقول ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر "الله" وجلت قلوبهم﴾ والصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم تعطيك الحب وناتج هذا الحب يعطيك التخلق والتأدب والتحلى بالصفات الحميدة والنبى صلى الله عليه وآله وسلم يقول (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحق وعد فى كتابه الكريم بقوله تعالى ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون نحن أولياءكم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم﴾ فلابد من حدوث ذلك، ففى أول الأمر أنت تذكر الإسم "الله" باللسان وتترقى بعد ذلك لموطن الكثرة وهو ذكر القلب ثم إلى ذكر الروح حتى تتحقق لك الإستقامة، فإذا إستقمت على ذلك لابد من تنزل الملائكة. والإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى يقول: هناك ملك تحت العرش ينادى ربه ويقول إلهى وسيدى ومولاى إن فلان بن فلان ’ويذكرك باسم شيخك لأن هذا أحد المواطن التى ينادى عليك فيها بإسم إمامك ﴿يوم ندعو كل أناس بإمامهم﴾‘ يقول هذا الملك أن فلان ذكرك بالإسم الذى خلقتنى منه وسخرتنى به وشاركنى فيه فيقول له الحق إنزلوا وساعدوه، ولذلك يقول تبارك وتعالى على لسان الملائكة ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا﴾ فعند إكتمال الذكر والإستقامة فيه تتنزل ملائكة الإسم ’الله‘ وتكتمل مملكة الروح من ملك ووزراء وجنود، وبهذا تبدأ المعركة والتشاكس بين ملك الروح وملك الهوى وبالطبع يكون النصر والغلبة لملك الروح وجنوده كما وعد الحق ﴿وإن جندنا لهم الغالبون﴾ وقال عز من قائل ﴿إن تنصروا ’الله‘ ينصركم ويثبت أقدامكم﴾ فكان النصر للإسم ’الله‘ وتستولى الملائكة على مملكة القلب وإلا متى كان الله مغلوبا لكى ننصره، وقد صدق من قال:

والعبد ليس له فى حكمها قدم       فكيف يقضى بشئ فيه إشراك

إن تنصروا الله ينصركم قد         نزلت وعين تحقيقها ما منه إدراك

وما الإله بمحتاج لنصرتنا                 وقد أتتكم به رسل وأملاك

فسلمه إلى من جاء منه وقل         العجز عن درك الإدراك إدراك

وقد أشار الحق إلى ذلك بقوله تعالى ﴿إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون﴾ فيكون بذلك ملك الهوى مقهور تحت طاعة النبى صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه وكان قبل ذلك يقود الإنسان إلى أسفل سافلين ويصدق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) ولتوضيح معنى الهوى (المزاج) ليعلم أنه ذو وجهين، وجه يطلب الباطل ويسعى إليه، ووجه يطلب الحق ويبحث عنه. ويقول الحق فى كتابه الكريم ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا﴾ وتأمل قول الحق ﴿عن ذكرنا﴾ وتأمل أيضا قوله ﴿واتبع هواه﴾ ثم اقرأ قوله تعالى ﴿واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها وأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾ فهناك الكثير من الآيات والأحاديث التى تحذرنا من إتباع الهوى، فما هو الهوى؟

وإلى العدد القادم ...

مجموعة المرشد الوجيز