فلنولينك قبلة ترضاها

تتوالى علينا الذكريات العطرة دائما، وها نحن مرت علينا من أيام قليلة ذكرى عظيمة وجليلة فى عالمنا الإسلامى وهى ذكرى تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وذلك تكريما وتعظيما وتشريفا لحضرة النبى سيدنا محمد وهى من الآيات العظيمة الدالة على حب الله لنبيه الكريم وحرصه عليه وموافقة إرادة النبى للمشيئة الإلهية، وهو ما لم يفعله سبحانه وتعالى مع أى مخلوق آخر فى القرآن ولا فى أى كتاب غيره، فقد خص الله سبحانه وتعالى مراضاته بالنبى ، والقارئ لكتاب الله المطلع عليه لا يسعه إلا أن يفهم حرص الحق سبحانه وتعالى على النبى ، ورحمته بأمة النبى من أجله، والأدلة على ذلك كثيرة وليس أبلغ من قوله سبحانه ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.

فى هذه المناسبة يقول الحق تبارك وتعالى ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ البقرة 144 وأورد الإمام ابن كثير عن ابن عباس أنه: أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها من اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ﴾ إلى قوله ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا ﴿مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

وقال الإمام القشيرى فى هذه المناسبة: حَفِظَ صلوات الله عليه الآدابَ حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنَّاه من أمر القبلة بقلبه، فَلاَحَظَ السماءَ لأنها طريق جبريل، فأنزل الله ﴿قد نرى تقلب وجهك فى السماء﴾ أى علمنا سؤلك عمَّا لم تُفْصِحْ عنه بلسان الدعاء، فلقد غيَّرنا القِبْلَةَ لأجلك، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب.

كلَّ العبيد يجتهدون فى طلب رضائى وأنا أطلب رضاك ﴿فلنولينك قِبْلَةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام﴾ ولكن لا تُعَلِّقْ قلبَكَ بالأحجار والآثار، وأَفْرِد قلبك لى، ولتكن القِبلةُ مقصودَ نَفْسِك، والحقُّ مشهودَ قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أَخْلِصوا قلوبَكم لى وأَفرِدوا شهودكم بى.

ويقول ابن عجيبة أيضا: يقول الحقّ لنبيه حين تمنى أن يُحَول إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدْعى إلى إسلام العرب، وهى أقدم القبلتين، فكان ينظر إلى السماء، ويقلب وجه فيها انتظاراً لنزول الوحْى، وهذا من كمال أدبه حيث انتظر ولم يطلب، فقال له الحق تعالى ﴿قد نرى﴾ أى: ربما نرى تردد ﴿وجهك فى السماء﴾ انتظاراً للوحى، فلنعطينك ما تمنيت، ونوجهك إلى قبلة ﴿ترضاها﴾ وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة، واقتضتها الحكمة، ﴿فولِّ وجهك﴾ أى: اجعله موالياً ﴿شطر﴾ أى: جهة ﴿المسجد الحرام وحيثما كنتم﴾ أيها المؤمنون أى فى أى مكان كنتم ﴿فولوا وجوهكم شطره﴾ جهته.

وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد، أى: جهته، دون عين الكعبة، لأنه كان فى المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه، بخلاف القريب، فإنه يسهل عليه مسامته العين. وقيل: إن جبريل عيّنها له بالوحى فسميت قبلة وحْى.

وللتوضيح أكثر نقول: أن الشطر أيضا تعنى النصف، والشطر والجهة تعنى أنها الناحية المواجهة، بمعنى أن الجهة تحدد بمواجهتها فجهة الشمال يقابلها الجنوب وجهة الشرق يقابلها الغرب، وبالتالى فيقسم الاتجاه على شطرين (نصفين) شطر للشمال وشطر للجنوب أو شطر للشرق وشطر للغرب، فكل ما فى الاتجاه الشمالى (180 درجة) هو اتجاه الشمال وكل ما فى الاتجاه الجنوبى (180 درجة) هو اتجاه الجنوب، وهكذا فإن اتجاه القبلة هو (180 درجة) فى اتجاه الكعبة وتكون الجهة المقابلة لها هى عكس اتجاه القبلة وهى الـ (180 درجة) المقابلة، فلفظ شطر المسجد الحرام لم يضعه الله إلا ليخفف على النبى الكريم وعلى أمته، حيث يمكنك أن تتحرى الكعبة قدر استطاعتك ويكفيك أن تكون فى اتجاه النصف الذى يحتوى على الكعبة، فمثلا فى الصورة يمكنك أن تتجه إلى اتجاه الشمس حيث أنها فى اتجاه القبلة.

ورُوِى أنه قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وُجِّه إلى الكعبة فى رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلّى بأصحابه فى مسجد بنى سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل فى الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسُمى مسجد القبلتين. قاله البيضاوى.

وفى الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب وأى أدب بعد أدب النبى ، وفى الحكم ’ربما دلّهم الأدب على ترك الطلب، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً فى قضائه السابق؟! جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل‘. فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك حتى يعطيك ما ترضى، أو يعوضك منها مقام الرضا. وفى المسألة كلام، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره فى الوقت، فإن انشرح للدعاء دعا، وإن انقبض عن الدعاء سكت. والله يرزق من يشاء بغير حساب ولا علّة ولا أسباب.

ولمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة غضبت اليهود، حيث ترك قبلتهم، مكابرة وعناداً، وقالوا: لو بقى على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى المبعوث فى آخر الزمان فنتبعه، فردَّ الله عليهم وكذبهم فقال:

﴿وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ • وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين • الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ • الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ البقرة 144-147.

وعن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله فقال: أنا أعلَمُ بِه مِنِّى بِابنى، قال له: ولِمَ؟ قال: لأنِّى لستُ أشُكُّ فى محمدٍ أنه نبى الله. وأمَا ولَدِى فلعلَّ والدتَهُ قدْ خَانَتْ.

وبعد حصول هذه المعرفة لهم جحدوه وكتموا صفته، إلا من عصمه الله بالإيمان كعبد الله بن سلام وأصحابه، فقد كتم فريق منهم الحق وهم أحبارهم، وهم يعلمون أنه حق حسداً وعناداً.

فكان كلام الحق سبحانه تمجيدا وتعظيما للنبى برغم أنف الجاحدين من اليهود، بل أنه سبحانه فضحهم بما يخفون وتوعهم على ذلك نصرا له .

هذا الذى أنت عليه يا محمد هو ﴿الحق من رَبِّك فلا تكونن من الممترين﴾ أى: من الشاكين فى أنه الحق، أو فى كتمانهم الحق عالمين به.

والخطاب مصروف للسامعين لا للنبى ؛ لأنه غير متوقع منه، وإنما المراد تحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ قاله البيضاوى.

ومما جرت به سُنة الله تعالى فى خلقه أن أهل الحقيقة منكرون عند أهل الشريعة، أو تقول: علماء الباطن منكرون عند علماء الظاهر، يقابلونهم بالإذاية والإنكار، مع أنه يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم، وأن علم الباطن حق لقوله (إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم)، وقال (لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَعٌ).

ويقول أيضا سبحانه وتعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ البقرة 143، وكأنه سبحانه وتعالى يقول أنه ما تأخر عن القبلة التى ترضاها تعذيبا لك أو رغبة فى إيذاءك وإنما كان ذلك بغرض تطهير أتباعك من المنافقين الذين لا إيمان لهم، والذين يختفون بين أصحابك، وينتظرون الفرصة لإظهار عداوتهم لك، فنحن نظهرهم لك ونطلعك عليهم، فكيف ترى رعاية الله لعبده ورسوله .

سامر الليل

 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير