صدق وعدى

 

حَدِيثُ الْمُرْسَلَاتِ بِصِدْقِ وَعْدِى     وَوَيْلٌ عَشْرُ آيَاتٍ عُشَارُ (31/1)

فى البيت الأول من القصيدة الحادية والثلاثين من ديوان شراب الوصل للإمام فخر الدين يحدثنا بنور الاسم الهادى والمبعوث لتجديد دين هذه الأمة الإسلامية ونائباً عن الحق تبارك وتعالى وخليفة عن المصطفى فى زماننا المعاصر وفى الحديث عن أبى هريرة عن رسول أنه قال (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). رواه البيهقى والسيوطى وعبد الرحمن بن صخر والحاكم فى المستدرك على الصحيحين وأبو داود فى سننه أجمعين. وهذا هو اعتقادنا فى الإمام فخر الدين ، فيقول فى منهجه المضمون والذى يحوى تجديداً يرضى الله ورسوله ويعلى من شأن هذه الأمة فيقول :

حَدِيثُ الْمُرْسَلَاتِ بِصِدْقِ وَعْدِى

المرسلات: وضّحها لنا الإمام فخر الدين فى البيت التاسع من القصيده التاسعة والعشرين قائلاً عن قصائده:

وَهُنَّ الْمُرْسَلَاتُ بِكُلِّ خَيْرٍ     وَذِى رِيحُ الْخَلِيفَةِ مِنْ رُخَاهَا (29/9)

فهذه القصائد مرسلات بكل خير من حِكم ومواعظ وارشاد وسير وسلوك إلى الله تعالى – تقرُّب - أنظر إلى قول العبد الصالح الخضر، فى سورة الكهف ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى﴾ الكهف 82، فكل ما فعله بأمر الله تعالى، وقول المولى تبارك وتعالى ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ الأنبياء 26-27، وانظر إلى تفسير بن عجيبة للآية حيث يقول: فأسرار الذات العلية منزّهة عن اتخاذ الصاحبة والولد... فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون، مقدّسون من دنس الحس، مستغرقون فى هَيَمَان القرب والأنس، وأهل الملأ الأسفل مختلفون، فمن غلب عقلُه على شهوته، ومعناه على حسه، وروحانيته على بشريته، فهو كالملائكة أو أفضل. ومن غلبت شهوته على عقله، وحسه على معناه، وبشريته على روحانيته، كان كالبهائم أو أضل. ومن التحق بالملأ الأعلى، من الأولياء المقربين، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله ﴿يُسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرون﴾ الأنبياء 20، ومن قوله ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾، بأن يدبروا معه شيئاً قبل ظهور تدبيره، وهم بطاعته يعملون أ.هـ.

فهذا شأن العباد الصالحين فى الدنيا والآخرة فإذا ظهروا لنا فى الدنيا نائبين عن الحق تبارك وتعالى فلماذا ننكرهم ولا نتبعهم وهذه سنة الله فى خلقه إذا أراد أن يكلم بشراً يكون من وراء حجاب ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ﴾ الشورى 51، ومن صور هذا الذى ذكرناه عندما صعد سيدنا عمر المنبر وفى أثناء الخطبة قال ياسارية الجبل أى إلزم الجبال وسمعه سارية وجيشه وهم على بعد مسيرة شهور وبعد إشرافهم على الهلاك من المشركين لجأوا إلى الجبل فانتصروا وعندما سأل الصحابة سيدنا عمر عن هذا قال: هى كلمات أجراها الله على لسانى.

نرجع إلى كلام الإمام فخر الدين حيث يقول:

حَدِيثُ الْمُرْسَلَاتِ بِصِدْقِ وَعْدِى

فالمرسلات هى كلامه وقصائده ونصائحه وإرشاده وما أخبر به عن الحق تبارك وتعالى، وإذا كان قد كُذّب الأنبياء والمرسلين من قبله فلا عجب أن يُكذّبَ من بعثه الله لتجديد الدين فى هذا العصر وننوه هنا إلى شىء فى غاية الأهمية فنحن ما قلنا إلا كلاما مسندا بآية أو حديث هذه نقطة، والثانية: أن الذى بعث الأنبياء والرسل عليهم السلام هو الله عز وجل والذى بعث هذا المجدد هو الله تعالى أيضاً، والنقطة الثالثة: أن من كذّب الأنبياء والرسل فقد كذّب من بعثه الله وأن من كذّب مجدداً فقد كذّب من بعثه الله تعالى أيضاً وأن من كذّب ولياً فقد كذّب كلام الله ، والنقطة الرابعة والهامة أيضاً: من منا بحث عن هذا الإمام المجدد للدين فى هذا العصر عملا بنص الحديث السابق ذكره ؟ أليس من الضرورى أن نبحث عن هذا المبعوث للم الشمل وقد تفرق المسلمون إلى فرق عديدة يكفر بعضهم بعضاً؟ أم يعتقد الكثير منا أن الله قد بعثه من باب الرفاهية؟ أم أن الكثير منا لا يلقى بالاً لهذا الحديث النبوى الشريف؟ أم رضى الكثير منا بإبقاء الحال على ماهو عليه من معان وفتاوى فى الدين لا تسمن ولا تغنى من جوع؟ أم رضى الكثير منا بالجهل؟ لقد جار أهل الإنكار على ما قاله السلف الصالح من معان فبعدوا كل البعد عما أراده المولى منا فهل من ملجإ نلجأ إليه؟ هل من سفينة نجاة يقودها ربان حازق ماهر يشق بنا أمواج الجهل العاتية والعالية والمتعالية فيهدينا إلى بر الأمان وتستوى على الجودى؟ وإذا قلتَ لى أنا لىَ عقل واستطيع أن أفكر به و... و... و... أقول لك قبل أن تفكر فكر معى، فى الآتى مثلاً: سيدنا نوح أخذ يصنع سفينة فى الصحراء وإذا سُئِل قال لهم أنه سوف يَبحُر بها من هنا وينجِّى من يركب معه من الغرق، وطبعاً لم يصدّقه فى هذا إلا ثلاثة عشر نفر وقيل سبعة عشر فهل كانوا معذورين فى عدم تصديقهم؟ بالطبع لا، ثم إننى أريد أن ألفت نظرك إلى شىء وهو أن الشىء الواجب التصديق به والإيمان به لابد وأن يكون شيئاً إذا بحثت فيه بعقلك يصعب تصديقه وإلا فما هو فائدة إيمانك، أيُعقل مثلاً أن آتى لك بسيارة وأقل لك هل تصدق أن هذه سيارة؟ وانظر إلى قول الله تعالى لأم موسى لكى ينقذه لها: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِى وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ طه 39، وانظر إلى فعل الخضر مع موسى يخرق السفينة لمساكين كل ما فعلوه أنهم أخذوهم معهم بدون أجرة لتعديتهم إلى البر الآخر بعد أن رفضتهم أكثر من سفينه لإفتقارهم إلى المال فلم يكن معهم ما يدفعونه أجرة لتعديتهم.

وانظر إلى الشرع ففى التيمم نمسح على ظاهر الخف ولا نمسح على باطنه والعقل بالطبع يقول الأولى نمسح على باطنه الذى ندوس به على الأرض؟ وانظر إلى أنك تغتسل من النطفة وتستبرء من البول علماً بأن النطفة طاهرة والبول نجس، ونحن لا نقول لك إلغى عقلك وإنما نقول لك استخدم قلبك ولا تلغيه وقبل استخدامه فلابد وأن تنظفه وإلا فلن يَدُلّك على خير.

ونظراً لما قلناه سابق ولأن أكثر من فى الأرض يصدون عن سبيل الله يخبرنا الإمام فخر الدين بأنه صادق فيما وعدنا به فى منهجه المضمون شراب الوصل ولأنه مُبلّغاً عن الحق تعالى حذرنا فقال: وَوَيْلٌ عَشْرُ آيَاتٍ عُشَارُ وهنا بداية نقول: أن الإمام فخر الدين لا ينفصل عن كلامه فهو ومنهجه شيئاً واحداً أو وجهان لعملة واحدة وعندما نرجع إلى القرآن لنقرأ ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ المرسلات 1، ثم نتعرف على التفاسير:

فى الظاهر: قيل أنها الملائكة والواو للقسَم.

وفى التأويل: يقول الإمام التسترى : يعنى الملائكة أرسلوا بالمعروف من أمره. قال: وباطنها أرواح المؤمنين ترسل إلهاماً موافقاً للكتاب والسنة. أ.هـ يعنى قسم من الله بأرواح المؤمنين التى ترسل إلهاماً موافقاً للكتاب والسنة. ويقول الإمام البيضاوى : أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها. أ.هـ.

ويقول الإمام ابن عجيبة : أقسم تعالى بنفوس العارفين، المرسَلة إلى كل عصر، بما يُعرف ويَستحسن شرعاً وطبعاً، من التطهير من الرذائل والتحلية بالفضائل. أ.هـ، وكأن الإمام فخر الدين يقول: لقد تحدثت سورة المرسلات والتى أقسم الله فيها  بالمرسلات الذين هم الأولياء العارفين الكُمّل وأنا واحد منهم وأن ماجئنا به هو الحق وأننا صادقين فيما وعدنا وأن الحق تعالى أكد صدقنا فقال فى الآية السابعة من نفس السورة ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ وإن قلت توعدون به من القرآن! سألتك سؤالاً واحداً لماذا إذاً اختلف المسلمون وكفر بعضهم بعضاً؟ إذا ًالعبرة بالمعانى التى بينها الله فى صدور من أتاهم العلم يعنى ما توعدون على ألسنتهم، وفى سورة الذاريات من تفسير الإمام ابن عجيبة يقول: ﴿فالحاملات وِقراً﴾ الذاريات 2، فالأنفس المطهرة، الحاملة للعلوم والحِكم والمواهب ﴿فالمُقَسِّمات أمراً﴾ الذاريات 4: فالأرواح والأسرار الكاملة، التى تقسم الأرزاق المعنوية والحسية، حيث جعل الله لها ذلك بفضله عند كمالها، وهذه هى أرواح أهل التصرُّف من الأولياء. إن ما تُوعدون من الوصول إلينا لَصادِقٌ لمَن صَدَقَ فى الطلب، وأنَّ الجزاء على المجاهدة بالمشاهدة لواقع. قال الإمام القشيرى: إن الله تعالى وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالمحبة، والأولياء بالقُربة، والعارفين بالوصلة، والطالبين بالوجدان. ولعلّ مراده بالأولياء عموم الصالحين. أ.هـ وأنه أوّلَ الذاريات على أنها رياح الواردات الإلهية، التى ترد على القلوب، فَتذْرو منها الأمراض والشكوك والأوهام والخواطر؛ لأنها تأتى من حضرة قهّار، لا تُصادم شيئاً إلا دفعته أ.هـ لهذا كله قال : وَوَيْلٌ عَشْرُ آيَاتٍ عُشَارُ.

شطر بيت مكوّن من خمسة عشر حرفاً لينقل السامع إلى الآية الخامسة عشرة وهى أول تحذير من العشر آيات التى تكررت فى السورة لفظاً وولم تتكرر فى المعنى ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ المرسلات 15، وويل قيل: واد فى جهنم وذلك للمكذِّب وعشر آيات لأنها ذُكِرَت فى السورة عشر مرات وعُشارُ أى مجتمعة وكأنه يقول : أن تحذيره بالعشر آيات مجتمعة فكل صنف من المكذِّبين له ويل وذلك ينفى التكرار والله تعالى أعلم.

فالويل للمكذّبين لا للكذّابين نجانا الله من أولئك وهؤلاء وجعلنا من المصدّقين والصادقين آمين.

وإلى العدد القادم بإذن الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد مقبول