دُعَاءَ الرَّسُولِ

 

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ • لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النور 34: 62-63.

من الآيات الدالة على حب الله لرسوله وحبيبه وتقديره له وحرصه عليه، وتحدد للمؤمنين ما لا يصلح إيمانهم بدونه، فيأمرهم الله سبحانه بالأدب مع رسوله الكريم ، وقد فصل ذلك سبحانه فى آيات متعددة، منها هذه الآيات التى أمامنا، وفيها يرشد الله المؤمنين إلى أدبين رئيسيين وهما وجوب الاستئذان من الرسول قبل الانصراف من الاجتماع معه وكذلك ضرورة مراعاة الإحترام الشديد عند التحدث معه أو مناداته، بل إنه سبحانه يحذر من يخالف أمر النبى بأنه يتعرض للعقاب الشديد فى الدنيا والآخرة.

وسنقدم لكم تفسيرا مختصرا لهذه الآيات مأخوذ من تفاسير أئمة التفاسير ثم نترك لكم ما جمعناه منه، ولنبدأ بالتفسير المختصر: فى هذه الآيات يشير الأمر الجامع إلى الأمر الموجب للاجتماع عليه، والذى يستدعى ألا يتركوا النبى دون إذن حتى لا يشق على قلبه ، مثلا فى الجمعة والأعياد والحرب وأى اجتماع معه غير ذلك، وكان المنافقون يتسللون من الاجتماع مع الرسول مستترين، فكانت مغادرتهم بلا استئذان استخفافا ولا نزاع فى أنها كفر، وقد خير الله المصطفى فى أن يأذن لمن يشاء منهم، وقال الضحاك ومقاتل أن المراد هو ما حدث مع عمر بن الخطاب ، وذلك لأنه استأذن فى غزوة تبوك فى الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال له انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا فوالله ما نراه يعدل، وقال ابن عباس أيضا إن عمر استأذن رسول الله فى العمرة فأذن له، ثم قال: (يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك)، وبالتالى فإن الله يؤيد رسوله فى فعله ويؤكد على أنه من لم يمتثل لأمره فليس من المؤمنين، وفى قوله: ﴿واستغفر لَهُمُ الله﴾ ما يرشد المؤمنين إلى أن هذا الاستئذان لا يجب ألا يحدث إلا للضرورة، وقال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ التوبة 9: 43، فأقر سبحانه وتعالى له بالإذن، والآية تؤكد ثقة الله فى رسوله حيث أنه سبحانه فوض إليه من أمر الدين ما يحكم فيه برأيه، هذا الرأى الذى أكد سبحانه أنه لا يأتى من الهوى... أما قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ فهو يشير إلى ألا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض لأن أمره فرضاً لازماً، ويدل على هذا قوله عقيب هذا ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ﴾ وقال سعيد بن جبير: لا تنادوه كما ينادى بعضكم بعضاً يا محمد، ولكن قولوا يا رسول الله يا نبى الله، ورأى حبر الأمة عبد الله ابن عباس : لا ترفعوا أصواتكم فى دعائه وهو المراد من قوله: ﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله﴾ الحجرات 49: 3، وكذلك احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، وأما قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته، وأيضا أن مخالفته تستحق العقاب، ولذلك عقب بقوله ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالمراد أن مخالفة أمر الرسول توجب أمرين أحدهما الفتنة وهى العقوبة فى الدنيا وقال ابن عباس : هى القتل، والأمر الثانى العذاب الأليم وهو عذاب الآخرة. ونقول أن هذا الأمر لا ينتهى بوفاته وإنما متصل فلا يصلح لمؤمن أن يرفع صوته فى روضة المصطفى ، كما لا يصح له أن يغادر الروضة دون أن يستأذنه .

ويضيف الإمام القشيرى أن شرطُ الاتباع موافقةُ المتبوعِ، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزاباً، وحيث أن (العلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ). فإن المريدون لشيوخهم كالأُمَّةِ لنبيِّهم؛ فَشَرْطُ المريدِ ألا يَتَنَفَّسَ إلا بإذن شيخه، ومَنْ خَالَفَ شيخَه فى نَفَسٍ فإنه يرى غير ما يُحبُّه. ولا يُشمُّ رائحةَ الصِّدقِ، فإن بَدَرَ منه شىءٌ من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمَّا حَصَلَ منه من المخالفة والخيانة، لِيَهْدِيَه شيخُه كفَّارةُ جُرْمِهِ.

ونترك لكم الآن ما جمعناه من تفاسير الأئمة:

فيقول الإمام الرازى فى تفسيره أن فى هذه الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرىء ﴿على أَمْرٍ جمِيع﴾ ثم ذكروا فى قوله ﴿على أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ وجوهاً: أحدها: أن الأمر الجامع هو الأمر الموجب للاجتماع عليه فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدو أو تشاور فى خطب مهم أو الأمر الذى يعم ضرره ونفعه وفى قوله : ﴿إِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ إشارة إلى أنه خطب جليل لابد لرسول من أرباب التجارب والآراء ليستعين بتجاربهم فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه وثانيها: عن الضحاك فى أمر جامع الجمعة والأعياد وكل شيئ تكون فيه الخطبة وثالثها: عن مجاهد فى الحرب وغيره.

المسألة الثانية: اختلفوا فى سبب نزوله قال الكلبى: كان يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتى يستأذن رسول الله وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.

المسألة الثالثة: قال الجبائى هذا يدل على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملى الإيمان وإن تركوا الاستئذان، وذلك يدل على أن كل فرض لله تعالى واجتناب محرم من الإيمان والجواب: هذا بناء على أن كلمة ﴿إِنَّمَا﴾ للحصر وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ولا نزاع فى أنه كفر.

أما قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَئذِنُونَكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ففيه مسائل:

المسألة الأولى: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَئذِنُونَكَ﴾ المعنى تعظيماً لك ورعاية للأدب ﴿أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أى يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه، قال الضحاك ومقاتل: المراد عمر بن الخطاب ، وذلك لأنه استأذن فى غزوة تبوك فى الرجوع إلى أهله فأذن له وقال له انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا فوالله ما نراه يعدل، وقال ابن عباس إن عمر استأذن رسول الله فى العمرة فأذن له، ثم قال يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك، وفى قوله: ﴿واستغفر لَهُمُ الله﴾ وجهان: أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيهاً على أن الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن، لأن الاستغفار يدل على الذنب وربما ذكر عند بعض الرخص الثانى: يحتمل أنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة على تمسكهم بآداب الله تعالى فى الاستئذان.

المسألة الثانية: قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ التوبة : 43.

المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه.

أما قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ ففيه وجوه: أحدها: وهو اختيار المبرد والقفال، ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضاً لازماً، والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ﴾ وثانيها: لا تنادوه كما ينادى بعضكم بعضاً يا محمد، ولكن قولوا يا رسول الله يا نبى الله، عن سعيد بن جبير وثالثها: لا ترفعوا أصواتكم فى دعائه وهو المراد من قوله : ﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله﴾ الحجرات 49: 3، عن ابن عباس ورابعها: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية.

أما قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً﴾ فالمعنى يتسللون قليلاً قليلاً، ونظير تسلل تدرج وتدخل، واللواذ: الملاوذة وهى أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعنى يتسللون عن الجماعة -على سبيل الخفية- واستتار بعضهم ببعض، و﴿لِوَاذاً﴾ حال، أى ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذى لم يؤذن له معه، وقرىء ﴿لِوَاذاً﴾ بالفتح ثم اختلفوا على وجوه: أحدها: قال مقاتل: كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبى يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها: قال مجاهد يتسللون من الصف فى القتال وثالثها: قال ابن قتيبة هذا كان فى حفر الخندق ورابعها: يتسللون عن رسول الله وعن كتابه وعن ذكره، وقوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله﴾ معناه التهديد بالمجازاة.

أما قوله : ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال الأخفش ﴿عن﴾ صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت ﴿عن﴾ لتضمين المخالفة معنى الإعراض. والمسألة الثانية: كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية، وقال أبو بكر الرازى: الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها. والمسألة الثالثة: الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب، ووجه الاستدلال به أن نقول: تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك، وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى : ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب... أما قوله تعالى: ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين الأمرين، والمراد بالفتنة العقوبة فى الدنيا، والعذاب الأليم عذاب الآخرة، وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك فى الدنيا ، فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد، ثم قال الحسن: الفتنة هى ظهور نفاقهم، وقال ابن عباس : القتل. وقيل: الزلازل والأهوال، وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر.

ومن تفسير الإمام الطبرى:

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ...﴾ يقول تعالى ذكره: ما المؤمنون حقّ الإيمان، إلا الذين صدقوا الله ورسوله ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ﴾ يقول: وإذا كانوا مع رسول الله (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور فى أمر نزل (لَمْ يَذْهَبُوا) يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله . وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال أهل التأويل. وذكر من قال ذلك:

عن ابن عباس، قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ يقول: إذا كان أمر طاعة لله. وعن ابن عباس أيضا: قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) قال: أمر من طاعة الله عامّ.

وعن ابن جُرَيج، قال: سأل مكحولا الشامى إنسان وأنا أسمع، ومكحول جالس مع عطاء عن قول الله فى هذه الآية ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ فقال مكحول: فى يوم الجمعة، وفى زحف، وفى كلّ أمر جامع، قد أمر أن لا يذهب أحد فى يوم جمعة حتى يستأذن الإمام، وكذلك فى كل جامع، ألا ترى أنه يقول: ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾. وعن الحسن، قال: كان الرجل إذا كانت له حاجة والإمام يخطب، قام فأمسك بأنفه، فأشار إليه الإمام أن يخرج، قال: فكان رجل قد أراد الرجوع إلى أهله، فقام إلى هرم بن حيان وهو يخطب، فأخذ بأنفه، فأشار إليه هرم أن يذهب، فخرج إلى أهله فأقام فيهم، ثم قدم، قال له هرم: أين كنت؟ قال: فى أهلى؟ قال: أبإذن ذهبت؟ قال: نعم، قمت إليك وأنت تخطب فأخذتُ بأنفى، فأشرتَ إلىّ أن اذهب فذهبت، فقال: أفاتخذت هذا دغلا؟ أو كلمة نحوها، ثم قال: اللهمّ أخر رجال السوء إلى زمان السوء. وعن الزهرى، فى قوله: ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ قال: هو الجمعة إذا كانوا معه لم يذهبوا حتى يستأذنوه. وعن ابن زيد، فى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ قال: الأمر الجامع حين يكونوا معه في جماعة الحرب أو جمعة، قال: والجمعة من الأمر الجامع لا ينبغى لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة إلا بإذن سلطان، إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه، ولا يخرج إلا بإذن، وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه، ولا يصل إليه، فالله أولى بالعذر.

وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ يقول تعالى ذكره: إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع عنك إلا بإذنك لهم طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عندى، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقا، لا من يخالف أمر الله وأمر رسوله، فينصرف عنك بغير إذن منك له، بعد تقدّمك إليه أن لا ينصرف عنك إلا بإذنك.وقوله: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ يقول تعالى ذكره: فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك فى هذه المواطن لبعض شأنهم، يعنى: لبعض حاجاتهم التى تعرض لهم، فأذن لمن شئت منهم فى الانصراف عنك لقضائها ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ يقول: وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لذنوب عباده التائبين، ﴿رحيم﴾ بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

القول في تأويل قوله تعالى : ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ...﴾ يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد : ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ...﴾، وأولى آراء أهل التأويل بالصواب فى معنى ذلك، هو أنه نهى من الله أن يدعوا رسول الله بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع. وذكر من قال ذلك:

عن مجاهد: ﴿كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ قال: أمرهم أن يدعوا: يا رسول الله، فى لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد، فى تجهم. وعن قَتادة، فى قوله: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ قال: أمرهم أن يفخِّموه ويشرّفوه.

ومن تفسير الإمام القشيرى: شرطُ الاتباع موافقةُ المتبوعِ، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزاباً كما قال: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ الحشر 59: 14 و(العلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ). والمريدون لشيوخهم كالأُمَّةِ لنبيِّهم؛ فَشَرْطُ المريدِ ألا يَتَنَفَّسَ بِنَفَسٍ إلا بإذن شيخه، ومَنْ خَالَفَ شيخَه فى نَفَسٍ - سِرَّاً أو جَهْراً - فإنه يرى غِبَّه سريعاً فى غير ما يُحبُّه. ومخالفةُ الشيوخ فيما يستسرونه عنهم أشدُّ مِمَّا يظهر بالجهر بكثير لأن هذا يلتحق بالخيانة. ومَنْ خَالَفَ شيخَه لا يُشمُّ رائحةَ الصِّدقِ، فإن بَدَرَ منه شىءٌ من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمَّا حَصَلَ منه من المخالفة والخيانة، لِيَهْدِيَه شيخُه كفَّارةُ جُرْمِهِ، ويلتزم في الغرامة بما يحكم به عليه. وإذا رجع المريدُ إلى شيخه إلى ما فيه بالصدق وَجَبَ على شيخه جبرانَ تقصيره بهمته؛ فإِن المريدين عِيالٌ على الشيوخ؛ فُرِضَ عليهم أن يُنْفِقُوا عليهم من قُوَّةِ أحوالهم بما يكون جبراناً لتقصيرهم.

سامر الليل

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير