سيد الشهداء 2

 

استكمالاً لما بدءناه فى العدد الماضى من تدارس أحد فرائد الإمام فخر الدين وهى القصيدة 24 حيث يقول :

ماذا تقول وأنت أنت ومن هو       أنا تراه وقد علاه لثام (24/2)

كما جاء فى لسان العرب لابن منظور اللثام: هو رَدُّ المرأَة قِناعَها على أَنفها وردُّ الرجل عمامَته على أَنفه، وقيل اللِّثامُ على الأَنف واللِّفامُ على الأَرْنبة، وقال الفراء إِذا كان على الفم فهو اللِّثام وإِذا كان على الأَنف فهو اللِّفام.

ومن القصائد التى ذكرت كلمة أيضاً:

أَمَّا اللِّثَامُ فَذُو الْعِنَايَةِ مُحْجَبٌ     عَنْ كُلِّ إِدْرَاكٍ لِأَهْلِ النَّضَارة (1/354)

فَهُوَ الْحَبِيبُ وَلاَيَخِيبُ رَجَاؤُهُ           أَوْرَثْتُهُ سِـــرًّا عَلَيْهِ لِثَامِى (15/2)

أمِيطُ الْيَوْمَ عَنْ قَــوْلِى لِثَاماً              لِزَامِيّاً فَقَدْ جَـــدَّ الْجَدِيدُ (42/1)

لهِذَا كَانَ لِى فِيكُمْ شُئُــونُ                وَأُخْفِيهَا بِأَسْتَارِ اللِّثَـــامِ (49/2)

نفهم من اللغة ومن القصائد بشرح الإمام أن اللثام حجاب وستار، فذو العناية أى صاحب العناية محجب لا تدركه حتى بصائر أهل النضارة وهم السالكون كما جاء فى تفسير الإمام ابن عجيبة لكتاب الله العزيز المسمى بـ "البحر المديد" فى قوله جل وعلا ﴿تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ المطففين 24، وذلك يعنى أن مقامه عال عن الإدراك، ومقامه هو حقيقتة ومنزلته العالية عند الله. فهذه القصيدة يعلمنا فيها أصول زيارة هذا العظيم من حيث الأدب من ناحية وإحسان الطلب من ناحية أخرى، فأنت بمعرفتك البسيطة لاتعرف كيف تدعو بما فيه مصلحتك العليا، فقد أورد لنا المصطفى حديثاً فى حق سيد الشهداء سيدنا ومولانا الإمام الحسين أورده أبو السعود فى شرحه على البردة أنه قال: (الشفاء فى تربته، والإجابة تحت قبته، والأئمة من ذريته أو عترته) مكتوب على باب ضريحه. فهو من الذين اصطفاهم المولى تبارك وتعالى ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ • ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ آل عمران 33-34. فهو من آل سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين، المصطفين من آل إبراهيم وابن بنت رسول الله القائل عنه: (حسين منى وأنا من حسين) فهذا الذى تدخله هو ضريحه وليس مقامه فتأدب واعلم أصول الزيارة حتى يرضى عنك فتدخل مقامه وتحظى بمعيته، فليس بعد ذلك إلا دخولك -إن سمح لك – إلى المصطفى  وهذا هو مراد المصطفى بقوله (وأنا من حسين) وقال أصحاب البصائر (حسين منى) أى ابن بنتى (وأنا من حسين) يعنى الذى يريد الدخول إلى معيتى وجوارى فبابى هو الإمام الحسين ، وفى هذا المعنى يقول الإمام فخر الدين :

بَابُ الدُّخُولِ إِلَى الْحَبِيبِ مُؤَكَّدٌ        بَابُ الْإِمَامِ وَنِعْمَ بَابُ الدَّانِى (2/12)

فمن عباد الله من قال تبارك وتعالى عنهم ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ • ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ الشورى 22-23 روى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال (علىّ وفاطمة والحسن والحسين وأبناؤهما).

ألا ترى أن له أولاداً آخرين وذوى قرابات فى مراتبهم كثيرين لم يذكرهم ولم يحرض الأمّة على محبتهم تحريضه على محبة هؤلاء وخص هؤلاء بالذكر. ومن خلاصة التفاسير أن هذه المشيئة من العباد الصالحين المجاب من رب العباد لاتصلح أن يكون أجرها مودة القربى لأن الموده يعود نفعها على العبد وجزاء المودة المغفرة والشكر من الله وهناك من فسر المودة أجراً -والرأى السابق أظهر- فانظر قيمة المودة فى أقل معانيها فإنها أجراً، إذا دفعته نلت الفضل الكبير وهو أن يكون لك ماشئت عند الله ومن تكون هذه القربى فهى القرابة المقربة من الله فمن تكون غير قرابة رسول الله فـ﴿النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾ الأحزاب 6، ولذلك يقول النبى (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهلى أحب إليه من أهله وعترتى أحب إليه من عترته وذاتى أحب إليه من ذاته) رواه الطبرانى، والبيهقى فى شعب الإيمان عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبيه.

فانظر عندما تزور ياأخى فأنت تزور من؟ أهل القربى ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ الشورى 23 يقول ﴿نزد له﴾، ﴿من كانَ يريد حرث الآخرة﴾ بقوة إرادته وشدّة طلبه لزيادة نصيب اللطف وتوجهه وإقباله إلى الحق لحيازة القرب ﴿نزد له﴾ فى نصيبه، فنصلح حال آخرته ودنياه لأن الدنيا تحت الآخرة وظلها ومثالها وصورتها تتبعها.

فعلمنا أن نقول عندما نقصد هذا الرحاب:

قُلْ يَا أَبَا الْإِكْرَامِ هَذِى حَالَتِى      أَنْتَ الرَّجَا الْمَأْمُولُ أَنْتَ إِمَامُ (24/3)

فإذا كان قد وضع الله فى مودة هذه الأسرة المحمدية الفضل الكبير بنص الآيات وقل أيضاً ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ هود 73، فأهل بيت النبوة حالهم هذا فما حال أهل بيت سيد الخلق فالآيات والأحاديث كثيرة، أليس هذا كله غاية الإكرام بسببهم والإكرام الإلهى بسببهم هو الفضل التام بالتجاوز والإحسان كما ذكرت لنا الآيات، فياكبير هذه الأسرة ياسبباً فى الإكرام الإلهى علينا بالمغفرة والفضل الكبير والإحسان فأنت أباً للإكرام علينا وأنت الرجاء المأمول لرضى الإله علينا فيغير أحوالنا بسبب مودتك يا إمام الأئمة والصالحين وقد قال عنك المصطفى (والأئمة من ذريته أو عترته).

قُلْ يَا أَبَا الْإِنْعَامِ إِنَّا فِى الْحِمَى        هَذَا حِمَاكُمْ رَوْضَةٌ وَمَقَامُ (24/4)

فإذا كان سبباً فى إنعام الله علينا عندما أطعنا الله ورسوله فى الآيه ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى﴾. ويقول : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ الشورى 69، ألا يكون أباً لهذا الإنعام الذى نسأل المولى تبارك وتعالى فى صلواتنا كل يوم وفى كل ركعة بالأخص أن يهدينا الله صراطه، فها هى أم الصلاة فاتحة الكتاب التى لا صلاة بدونها نقرأها سبعة عشر مرة يومياً فى الصلوات الخمس المفروضة علينا من قبل المولى تبارك وتعالى ونقول ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ • صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ﴾ وها هو أبو الإنعام سيدنا ومولانا الإمام الحسين ، ألا نكون بذلك قد دخلنا فى حمى الله، ألا يكون الدخول فى حماه دخول فى حمى الله؟!! ولكل مَلِكٌ حمى، وحمى الله محارمه، والقبر إما روضه من رياض الجنه، وإما حفرة من حفر النار، وهذا ضريح سيد الشهداء فهو من أكبر الروضات، وقد قال الحبيب المصطفى : (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ، قَالَ حِلَقُ الذِّكْرِ) رواه الإمام أحمد فى مسنده والترمذى فى سننه والبيهقى فى شعب الإيمان، وما أكثر حلق الذكر فى هذا الرحاب، والرتع هو الأكل والشرب رغداً وفى الحديث إشارة لغذاء وشراب الأرواح، نعم هذا حماكم روضة ومقام.

قُلْ يَا عَطَاءَ اللهِ مَنْ دَانَتْ لَهُ        كُلُّ الرِّقَابِ لِتُوصَلَ الْأَرْحَامُ (24/5)

أليس بهذه المعانى كلها هو عطاء من الله أليس بهذا الفضل الكبير، يكون أهل البيت عطاء لنا ننال بهم الفضل الكبير والغفران والحسنى من الله بمودتهم أليس هو سبباً فى رضا الله ورسوله علينا فنحظى بالإضافة إلى أهل بيته كما قال سابقاً (سلمان منا آل البيت) فتتصل الرحم الإيمانية بالأصل ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الحجرات 10، وقد قلنا سابقاً لا معية مع الرسول إلا من باب سيدنا ومولانا الإمام الحسين و﴿النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً) الأحزاب 6، والإيمان لايتحقق إلا بحبه فهو واحد من أكابر أهل البيت وبهذا تتحقق الأخوة أخوة الإيمان وتتصل الأرحام بهذا الاعتبار وتتصل به الفروع بالأصول، وصلنا الله به وبذريته ومنحنا المعية والإضافة إلى هذا البيت الكريم وللقصيدة بقية، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأطهار الكرام وصحابته النجوم الأعلام والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 محمد مقبول