عاصفات وناشرات

 

وَإِنَّ الْعَاصِفَاتِ بِكُلِّ ظُلْمٍ      لَدَىَّ قِيَادُ سَطْوَتِهَا يُدَار (31/2)

وَإِنَّ النَّاشِرَاتِ بِكُلِّ مَرْقىً      لَهَا مِنِّى نُشُورٌ وَانْتِشَارُ (31/3)

وَإِنَّ الْفَارِقَاتِ لِكُـلِّ أَمْرٍ        حَكِيمٍ لِى بِرُتْبَتِهَا وَقَارُ (31/4)

تناولنا فى العدد السابق البيت الأول من القصيدة الحادية والثلاثين من ديوان شراب الوصل للإمام فخر الدين والآن مع البيت الثانى والثالث والرابع من نفس القصيدة، يقول المولى تبارك وتعالى فى سورة المرسلات ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ المرسلات 1: 7، يقول الماوردى : قوله تعالى ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: الملائكة تُرسَل بالمعروف، قاله أبو هريرة وابن مسعود.

الثانى: أنهم الرسل يُرسَلون بما يُعرفون به من المعجزات، وهذا قول أبى صالح.

الثالث: أنها الرياح ترسل بما عرفها الله تعالى.

ويحتمل رابعاً: أنها السحب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه، ومن أرسلت إليه.

ويحتمل خامساً: أنها الزواجر والمواعظ. أ.هـ ويقول بمثل هذا كثير من المفسرون وأما التأويل  فيقول التسترى : أنها أرواح المؤمنين ترسل إلهاماً موافقا للكتاب والسنة. أ.هـ ويقول البيضاوى : أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها. أ.هـ ويقول ابن عجيبة : أقسم بنفوس العارفين، المرسلة إلى كل عصر، بما يعرف ويستحسن شرعاً وطبعاً، من التطهير من الرذائل والتحلية بالفضائل. أ.هـ

وكأنه يقول: أن الله قد أقسم  بالرسل والأنبياء والأولياء المرسلين فى كل عصر وأنا واحد منهم أنما توعدون من قِبَلِهم من إنذار أو إعذار أو تذكير لواقع، أى أنهم صادقون فيما قالوا وبلغوا عن ربهم، وأن ما أمليته لكم من قصائد تمثل منهجاً فيه الإعذار والإنذار هو الصدق الذى أخبر به المولى تعالى قائلاً ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ ولم يقل إنما وعدتكم به لواقع. 

وَإِنَّ الْعَاصِفَاتِ بِكُلِّ ظُلْمٍ      لَدَىَّ قِيَادُ سَطْوَتِهَا يُدَارُ

وَإِنَّ الْعَاصِفَاتِ بِكُلِّ ظُلْمٍ، نرجع للقرآن ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ يستكمل ابن عجيبة: أقسم تعالى بنفوس العارفين... فعصفت البدعَ والغفلة من أقطار الأرض عصفاً. أ.هـ فهذه النفوس -نفوس العارفين- المرسلة من قِبَل المولى تعالى لكل عصر تعصف رياحها بكل ظلم من بدع وغفلة لدى محبيهم وتابعيهم كما أن الله سخر الريح لسيدنا سليمان وإذا قال قائل أن سيدنا سليمان قال ﴿وَهَبْ لِى مُلْكًا لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى﴾ ص 35، نقول له يقول القشيرى : من الملوك لا من الأنبياء وقال الزمخشرى : أراد ملكاً عظيماً ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، وفى كتاب ابن العربى الجزئين يقول: أى كمالاً خاصاً باستعدادى يقتضيه هويتى لا ينبغى لغيرى لاختصاصه بى وهو الغاية التى يمكنه بلوغها.

"لَدَىَّ قِيَادُ سَطْوَتِهَا يُدَارُ" فإن هذه العاصفات التى تعصف بكل ظلم لدىّ قياد بطشها وقهرها سواء كانت رياح أم ملائكة أم نفوس وذلك إخبار منى عن عصرى لأنى المبعوث لهذا العصر من الأولياء الخلفاء الراشدين المهديين من بعد الحبيب المصطفى .

وَإِنَّ النَّاشِرَاتِ بِكُلِّ مَرْقىً      لَهَا مِنِّى نُشُورٌ وَانْتِشَارُ

﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ يقول سيدى محيى الدين بن عربى : الأنوار تنشر وتحيى ما أهلكته وأفنته العاصفات من تجليات صفات المحبه والرحموت. أ.هـ، ويقول بن عجيبة : نفوس العارفين فى كل عصر تنشر الهداية فى أقطار البلاد وتحيى بهم العباد. أ.هـ، ويقول البيضاوى : الملائكة تنشر الشرائع فى الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم. أ.هـ، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يوسف 76، أى ترقيات بواسطة العلم.

وكأنه يقول: إننى بفضل الله أنشر الهداية والعلم والنور والذكر فى ربوع البلاد فتحيا وتترقى بها قلوب العباد من الغفلة والجهل إلى نور العلم والذكر.

كما جاء فى الحديث عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله قال (مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكر ربه كمثل الحى والميت).

وعن أبى هريرة أن رسول الله قال (سبق المفردون قالوا وما المفردون يارسول الله قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) المفردون الذين ذهب القرن الذى كانوا فيه، وبقوا وهم يذكرون الله تعالى.

وَإِنَّ الْفَارِقَاتِ لِكُلِّ أَمْرٍ        حَكِيمٍ لِى بِرُتْبَتِهَا وَقَارُ

التى تفرق بين الحق والباطل كانت أنبياء أم رسل أم ملائكة أم نفوس العارفين.

ويقول التسترى : تفرق بين الحق والباطل والسنة والبدعة. ففرقت بين الحق والباطل، وبين أهل الغفلة واليقظة، وبين أهل الحجاب وأهل العيان. أ.هـ وقال البيضاوى : أو أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها ... وفرقن بين الحق بذاته، والباطل فى نفسه، فرأوا كل شىء هالكاً إلاّ وجهه أ.هـ وتقول الآية ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ الدخان 46، روى أبو الشيخ، بسند صحيح، عن ابن عباس فى قوله ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت﴾ الرعد 39، قال: ليلة النصف من شعبان، يُدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره؛ الشقاوة والسعادة، والموت والحياة. قال السيوطى: سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه. أ.هـ.

وروى عن ابن عباس : قال: إن الله يقضى الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وقال الطبرى : فقال بعضهم: هى ليلة القدر،  يقضى فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة. ويقول ابن عجيبة : والليلة المباركة عند القوم، هى ليلة الوصال والاتصال، حين يُمْتَحى وجودُهم، ويتحقق فناؤهم، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم، ويفقدون وجودهم؛ فهو مبارك، وهو ليلة القدر عندهم، فإذا دام اتصالهم، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وكلها مباركة. قال الورتجبى: قوله تعالى ﴿فى ليلة مباركة﴾ الدخان 3، كانت مباركة لتجلِّى الحق فيها بالأقضية، والرحمة غالبة فيها، ومن جملتها: إنزال القرآن فيها؛ فإنه افتتاح وصلة لأهل القربة فى ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية، بلا واسطة.

"لِى بِرُتْبَتِهَا وَقَارُ": الرتبة: المنزلة عند الملوك ونحوها. وفى الحديث (من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها). والمرتبة: هى المنزلة الرفيعة، أراد بها الغزو والحج، ونحوها من العبادات الشاقة. والوقار: الحلم والرزانة وهو أيضاً السكينة والوداعة. والتوقير: التعظيم.

فإن الأمر الحكيم المحكم وهو الحكمة التى تظهر بعد الفرق له منزلة رفيعة لا ينالها إلا عظيم رفيع المنزلة.

وكأنه يقول: إن لى بين الفارقات لكل أمر حكيم -وهذه منزلة رفيعة- لى بين أولياء هذه المنزلة الرفيعة المختصين على مر العصور لتبيان وتوضيح الحق من الباطل لى الوقار حيث اختصنى ومنحنى المصطفى الكريم هذه القصائد المليئة بالدرر والحكم والتى لا تضاهى فى الورى نفعنا الله بعلمه وحكمه آمين.

وإلى أن نلقاكم على خير بإذن الله تعالى نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

محمد مقبول