الحج4

كمال الدين فى الأركان حج       لبيت الله فى البلد الحرام

استكمالا لموضوع الحج بالأعداد الثلاثة السابقة لهذا العدد نقول والله هو الموفق والمعين:

يقول الحق تبارك وتعالى فى مستهل سورة المائدة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ 1 المائدة، وأوضحنا أن بهيمة الأنعام لها معنى ظاهر ومعنى تأويلى وباطنى كما أخبرنا السيد محيى الدين فى تفسيره، فالمعنى الأول لا يخفى على أى مسلم متشرع قارئ لكتاب الله عز وجل. فظاهر اللفظ معناه الإبل والبقر والغنم. وقال به الحسن وقتاده وغير واحد من الأئمة المعتمدين أجمعين، وأما المعنى التأويلى أو الإشارى أو الباطنى أولت فيه بهيمة الأنعام بالأنفس المزكاه السليمة التى تقرب صاحبها بقتل نفسه عن شهواتها ومنعها بالجهاد الأكبر، فكانت نفسه كالبهيمة من النعام التى يتقرب بها العبد إلى ربه تعالى ومن هنا كان المعنى الظاهر لبهيمة الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وهى من الأشياء التى يتغذى الجسد عليها، أما القلوب والأرواح فتتغذى على المعانى القريبة العهد من الله تعالى، المعانى الحقيقة، المعانى اللدنية والتى لا نتحصل عليها إلا من العباد المخصوصين المذبوحة نفوسهم قربانا وتقربا إلى الله تعالى فخلصوا من هوى النفس وذكروا الله على الدوام بقلوب طاهرة صافية، فهؤلاء هم الذين آمنوا حتى كانت لهم من الله الحسنى، وهؤلاء هم أولوا الأمر. لقد كرمهم المولى تبارك وتعالى فى كتابه العزيز فذكرهم بآيات تتلى ونتعبد بها فقال سبحانه ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ 28 الكهف، أى لا تتبع إلا من كان قلبه ذاكرًا حيا خاليا من هوى النفس، وقال أيضا ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ 59 النساء، فهؤلاء هم أولوا الأمر الأحق والأجدر باتباعهم فى أمر ديننا.

فانظر يا أخى المؤمن فى قول إبليس وتعلم مع من تكون ومن تتبع فقد قال اللعين للمولى تبارك وتعالى ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ 39، 40 الحجر، فاستثنى من الإغواء عباد الله المخلصين لأنه يعلم جيدًا أنه لا سلطان له عليهم ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ 65 الإسراء، وهؤلاء هم الصادقون ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ 119 التوبة، الذين تخلصوا من الأنفس فصفت قلوبهم وتطهرت وكانوا صادقين مجردين من هوى النفس فإذا أخذنا المعانى القرآنية عنهم ترقت قلوبنا وأرواحنا وارتفعت وسمت إلى القرب الإلهى فأنت قد عرفت بيت الله الحرام التى تطوف به الأجساد فهلا تعرفت على بيت الله المعنوى التى تطوف به القلوب والارواح، وفى الأثر قال المولى تبارك وتعالى لسيدنا داود: {طهر لى بيتًا أسكنه، فقال: يا رب أى بيت يسعك؟ فقال له: لن تسعنى أرضى ولا سمائى، ووسعنى قلب عبدى المؤمن} أى يسعه بالمعرفة، فهذا القلب الذى

تعمر بنور الرب وتمكنت منه المعارف والاسرار، كان مرجعًا وملجأً للعباد، كل من وصل إليه، وطاف به، كان آمنًا من الزيغ والعناد ومن خواطر السوء وسوء الاعتقاد. وقد قال بهذا السيد ابن عجيبة فى تفسير البحر المديد فى الآية 125 من سورة البقرة ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾، وما هو الذى جعلنا نربط آية ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام بموضوع الحج، نقول أن العلاقة بين هذه الآية الكريمة وموضوع الحج طبيعى جدا إذا عرفنا أنها هى الآية رقم 1 من سورة المائدة، وأن الآية رقم 3 من نفس السورة نزل بها قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا وكمال الدين كان بالركن الخامس وهو الحج وقد نزلت هذه الآية فى حجة الوداع يوم الجمعة بعد العصر يوم عرفة سنة 10 هجرية والنبى بعرفات على ناقته العضباء وذلك قول النيسبورى فى كتابه أسباب النزول.

فالمعنى الإشارى للآية ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ كما ذكرنا سابقًا عن النفوس المزكاة التى أحلها الله لنا أن نأخذ منها أمور ديننا الحنيف ثم قال تعالى ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ أى، أن هناك أنفس لم تتزكى سوف أتلوها عليكم، حرام عليكم تأخذوا منها وهى التى فى قوله تعالى ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به﴾ 2 المائدة، إلى أن قال عز من قائل ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ إلى آخر الآية، فانظر يا أخى هذا التعليم الربانى، حتى يصل بنا المولى تبارك وتعالى إلى كمال الدين.

يستثنى سبحانه وتعالى من بهيمة الأنعام ﴿الميتة﴾ أى النفوس التى ماتت بالغفلة والجهل لعدم قبولها للتزكية فكما أنه سبحانه أراد لأجسادنا ألا تتغذى على الميتة حتى تطهر، أراد أيضًا ألا نغذى أرواحنا فى ديننا بمعانى صادرة من أنفس ميتة بالغفلة والجهل. ومن المفسرين من قال أن الميتة هى الدنيا كلها وذلك مأخوذ من قول المصطفى "الدنيا جيفة وطلابها كلاب" أو كما قال ، فالأخذ منها لا يكون إلا للضرورة والحاجة الماسة لسد الرمق، ومنهم من قال أن الميتة تناول عرض أخيك على وجه الغيبة وذلك بما يكره، وذلك ليس مما فيه رخصة بحال إلا بالإضطرار لا بالإختيار كما فى حل الميتة فحرام إلا بالإضطرار.

ويقول القشيرى : ويقال كما أن فى الحيوان ما يكون المزكى منه مباحًا والميتة منه حرام، فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطهر نفسه مباح قربه وحلال صحبته، ومن ماتت نفسه فى ظلمة غفلته حتى لا إحساس له بالأمور الدينية فخبيثة نفسه، محظور قربه وحرام معاشرته، وغير مباركة صحبته.

ويقول المولى تبارك وتعالى فى كتابه العزيز ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ 122 الأنعام، فسأل الصحابة الرسول عن هذا فقال : (مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكره، مثل الحى والميت) رواه البخارى، وفى رواية أخرى لمسلم (مثل البيت الذى يذكر الله فيه، والبيت الذى لا يذكر فيه مثل الحى والميت).

أحيا الله قلوبنا فى الدنيا والآخرة ورضى عنا مشايخنا ونفعنا بهم.

وللحديث بقية إنشاء الله تعالى ،،،

محمد مقبول