نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

سكة الندامة و ..

 

كان احساسى بنفسى عالى قوى، وأنا رايح أقابل صديقى علشان أعرف رأيه فى الكلام اللى قلته المرة اللى فاتت .. يا ترى عجبه .. فقاطعتنى نفسى قائلة: إزاى ماعجبوش؟ دا الكلام اللى انت قلته أفحم أكبر رأس فيهم .. بذمتك حد عرف يرد عليك؟ وابتسمت وقلت لنفسى بشئ من التواضع: بس لولا فضل ربنا علىّ ماكنتش قدرت أغلبهم .. فقالت بسرعة: طبعاً هو فى حد يقدر ينسى فضل ربنا، بس برضُه الواحد ماينساش المجهود اللى انت عملته، انت قعدت تقرأ كتير، وتبحث كتير، وتسأل كتير، فربنا عملك الامتحان ده علشان تشوف فضله عليك، فا انت بعقلك وخبرتك وحكمتك قدرت تنجح فى الامتحان، شفت ربنا أعطاك عقل أحسن من عقولهم، بيفهم ويستوعب.

بعد الكلام ده حسيت إنى مش ماشى على الأرض، وبقول "يا أرض إتهدى ما عليكى أدّى" وصلت إلى بيت صديقى ودخلت، وقبل أن أقعد سألته بطريقة واحد عارف إجابة السؤال مسبقاً، بس بيسأل من باب العلم بالشئ .. فقلت: إيه رأيك فى الكلام اللى قلته المرة اللى فاتت؟ أكيد عجبك بعد ما كتمتهم كلهم و... وقف الكلام على لسانى من نظرته لى، فقلت: مالك فيه إيه؟ هو أنا قلت حاجة غلط؟ فقال: حاجة واحدة بس .. دا كلك غلط، فقلت: على كده أنا لخبطت الدنيا، والناس اللى كانت بتسمعنى دلوقتى بتقول إنى ... فقاطعنى: ناس مين؟ وبيسمعوا مين؟ أم كلثوم ياخى .. الكلام ده مش علشان اللى حصل هناك .. فقلت مبتسماً: يا شيخ خوفتنى أنا افتكرت إنى لخبطت هناك .. طيب زعلان ليه؟ فرد: زعلان من اللى انت قُلته دلوقتى .. ده أول خطوة فى سكة الندامة، فضحكت وقلت: أيوه .. سكة الندامة وسكة السلامة وسكة اللى يروح ما يرجعش .. هأ .. هأ .. هأ، نظر إلىّ نظرة قطعت الضحكة، وقال: الدنيا كده 3 سكك .. سلامة وندامة واللى يروح ما يرجعش، فقلت: ماشى .. فهمنى أنا غلطت فى إيه؟ فرد: حضرتك عجبتك نفسك، وافتكرت إنك قلت وعملت وسويت الهوايل .. يا راجل دا أنا شايفك وانت عمال تدعى ربنا إنه يلهمك الصواب، فقلت: صح، فرد: طيب لما هو صح، بتنسب الفضل لنفسك ليه؟ فقلت بسرعة: الغلط راكبنى من ساسى لراسى، متزعلش .. حقك علىّ، بس أنا معزور، لأنى أول مرة أتكلم واسمع نفسى وأنا بتكلم الكلام ده والرد عجبنى قوى .. فقاطعنى: علشان كده شفت نفسك، وحسيت إن الكلام ده منك انت، مش فضل ربنا عليك، وقعدت حضرتك تشكر فى نفسك، وتمدح فى عقلك .. انت عارف البنى آدم منا يوم ما يمشى ورا دماغه تأكد إنه بيتلعب بيه الكورة، فقلت: الكورة .. مين اللى بيلعب بينا الكورة؟ فقال: النفس والدنيا والهوى والشيطان، دول اللى بيقطعوا السكة اللى بتودى لربنا على العباد اللى هى سكة السلامة، فقلت: واحدة واحدة .. عرفنى إيه حكاية الأربعة دول؟ فقال: طيب نبتدى بمين؟ الشيطان .. لأ .. انت عارفه و... فقاطعته: عارفه منين؟ .. إيه متربين سوا؟ فضحك وقال: مش قصدى .. ولكن عاوز أقول إن الكلام عنه كتير وواضح، ومع ذلك ناس كتير ماشيه وراه .. طيب بما إن موضوع النقاش بينا كان على النفس، نبتدى بيها، فقلت: مش النفس هى ذات الإنسان؟ قال: فيه آراء عن معنى النفس، بتوع اللغة قالوا: إن النفس أو نفس الشئ وجوده .. وفيه ناس غيرهم قالوا: إن الروح لما بتدخل الجسد بينشأ شكل جديد يقال له النفس، فقلت: يعنى إيه؟ قال: يعنى الروح لوحدها لطيفة نورانية لا تُرى، والجسد لوحده أصله التراب لا حركة فيه ولا نَفَس، لما الروح بتدخل الجسد يتحرك الجسد ويتنفس وياكل ويشرب، رغم إنه نفس الجسد اللى شفته قبل ما تدخل فيه الروح، يبقى التوليفة دى أو الخلطة بين الروح والجسد عملت حاجة جديدة لا هى روح فقط ولا جسد فقط لكن هى الاتنين معاً، فأشاروا إليها بالنفس، وفيه ناس غير دول وغير دول قالوا: إن النفس هى أوصاف العبد المذمومة من أخلاقه وأفعاله، وقالوا: إن الكذب والغضب والحقد والحسد وسوء الخلق وقلة الاحتمال وغيرها من الأخلاق المذمومة، مش كده وبس، ده كله كوم وإنك تعمل قدر للنفس كوم تانى، وقالوا: إن ده من الشرك الخفى، واستندوا لحديث سيدنا رسول الله صلوات ربى وسلامه عليه حين قال (ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) فقلت: مش الشح ده هو البخل؟ فقال: لأ، البخيل هو اللى بيبخل باللى يملكه على غيره، يعنى لا يطلع زكاة أو صدقة أو يساعد حد باللى عنده، خايف من نقصانه، أما الشحيح مش عاوز أى حد عنده يدى اللى ماعندوش، بيوصل به الأمر إنه مش عاوز ربنا يدى أى حد من خزائن نعمه، ببساطة مش عاوز النعم تيجى لأى حد، حتى لو ماعندوش مش مشكلة، المهم عنده إن مافى حد ياخد حاجة، يفضل كده لحد ما يتحول إلى حسود، بدل ما كان كل همه إن لا يعطى لأى حد شئ، أصبح ينظر إلى من عنده من النعم ويحسده، ويتمنى زوال هذه النعم عنه، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) فقلت: هو فيه ناس كده؟ فنظر إلىّ وهز رأسه وقال: لأ يا حبيبى ده فيه أشد من كده، إنك تعجب بنفسك، وكمان تتكبر على غيرك، وتتفاخر باللى انت فيه، أو اللى انت عملته، أهو ده زى ما بيقولوا (الداء العضال) ليه؟ لأن الشخص بيبص لنفسه بعين العزة والعظمة، وبيبص لغيره بعين المذلة والاحتقار .. بنعرف الشخص ده إزاى؟ معياره الأساسى والأوحد هو العقل .. ومش أى عقل .. عقله وبس، دايماً يقول أنا عملت، أنا سويت، أنا كذا، ولو ماكنتش عملت كذا كانت الدنيا حاتخرب، تلاقى دايماً على لسانه كلمة (أنا) الإبليسية، لإن إبليس اللعين قال ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ الأعراف 12، ص 76، وتعرفه كمان فى المجالس تلاقيه مترفع على الناس، ودايماً يتقدم عنهم، ويحب قوى إنه يتصدر المجلس، ويستنكف قوى إن حد يرد كلامه عليه، وإن حد ينصحه .. يا خبر انت مين علشان تنصحنى؟ وتلاقيه هو إذا حب ينصح حد ينصحه فى وسط الناس، وبصوت عالى وبطريقة فيها زجر ونهر .. فقلت فى خوف وفزع: طيب نعمل إيه؟ إيه الحل؟ فقال: شوف فى حديث لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جامع للحاجات دى وبيوضح كيفية النجاة من المصائب دى، قلت: طيب وساكت ليه؟ إلحقنى بيه، فقام من على كرسيه وراح للمكتبة وجاب كتاب وقلب صفحاته، ثم بدأ فى القراءة قائلاً: روى ابن المبارك عن رجل أنه قال لمعاذ: يا معاذ حدثنى حديثاً سمعته من رسول الله قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت، ثم قال: وا شوقاه إلى رسول الله وإلى لقائه، ثم قال: سمعت رسول الله يقول لى (يا معاذ إنى محدثك بحديث إن أنت حفظته نفعك عند الله، وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله تعالى يوم القيامة، يا معاذ إن الله تبارك وتعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، فجعل لكل سماء من السبع ملكاً بواباً عليها، فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسى، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته وكثرته، فيقول الملك الموكل بها للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة، أمرنى ربى ألا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزنى إلى غيرى.

قال: ثم تأتى الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد له نور فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنه أراد بعمله عرض الدنيا، أنا ملك الفخر، أمرنى ربى ألا أدع عمله يجاوزنى إلى غيرى، إنه يفتخر على الناس فى مجالسهم.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نوراً من صدقة وصلاة وصيام، قد أعجب الحفظة، فيجاوزن به إلى السماء الثالثة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر، أمرنى ربى ألا أدع عمله يجاوزنى إلى غيرى، إنه كان يتكبر على الناس فى مجالسهم.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهو كما يزهو الكوكب الدرى وله دوى من تسبيح وصلاة وصيام وحج وعمرة، حتى يجاوزا به إلى السماء الرابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وظهره وبطنه، أنا صاحب العُجب، أمرنى ربى ألا أدع عمله يجاوزنى إلى غيرى، إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العُجب فيه.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى بعلها، فيقول الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واحملوه على عاتقه، أنا ملك الحسد، إنه كان يحسد من يتعلم ويعمل بمثل عمله، وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة كان يحسدهم، ويقع فيهم، أمرنى ربى ألا أدع عمله يجاوزنى إلى غيرى.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد له ضوء كضوء الشمس من وصلاة وزكاة وحج وعمرة وجهاد وصيام، فيجاوزن به إلى السماء السادسة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو مرض، بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة، أمرنى ربى ألا أدع عمله يجاوزنى إلى غيرى.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صوم وصلاة ونفقة وجهاد وورع، له دوى كدوى النحل، وضوء كضوء الشمس، ومعه ثلاثة آلاف ملك، فيجاوزن به إلى السماء السابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واضربوا جوارحه واقفلوا به على قلبه، أنا صاحب الذكر، فإنى أحجب عن ربى كل عمل لم يرد به وجه ربى، إنه إنما أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد به رفعة عند الفقهاء، وذكراً عند العلماء، وصيتاً فى المدائن، أمرنى ربى ألا أدع عمله يجاوزنى إلى غيرى، وكل عمل لم يكن لله تعالى خالصاً فهو رياء، ولا يقبل الله عمل المرائى.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله تعالى، فتشيّعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله تعالى، فيقفون بين يديه، ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله تعالى، فيقول الله تعالى: أنتم الحفظة على عمل عبدى، وأنا الرقيب على ما فى قلبه، إنه لم يردنى بهذا العمل، وإنما أراد به غيرى فعليه لعنتى، فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا، فتلعنه السموات السبع ومن فيهن).

ثم بكى معاذ وانتحب انتحاباً شديداً وقال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله، وأنا معاذ فكيف لى بالنجاة والخلاص من ذلك؟ قال (اقتد بى وإن كان فى عملك نقص، يا معاذ:

حافظ على لسانك من الوقيعة فى اخوانك من حملة القرآن خاصة.

واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم.

ولا تزل نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم.

ولا تُدخل عمل الدنيا فى عمل الآخرة ولا تراء بعملك.

ولا تتكبر فى مجلسك لكى يحذر الناس من سوء خلقك.

ولا تناج رجلاً وعندك آخر.

ولا تتعظم على الناس فتنقطع عنك خيرات الدنيا والآخرة.

ولا تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار يوم القيامة فى النار، قال تعالى ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ النازعات 2، هل تدرى من هن يا معاذ؟) قلت: ما هن بأبى أنت وأمى يا رسول الله؟ قال (كلاب فى النار تنشط اللحم من العظم).

قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله من يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها؟

قال (يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، إنما يكفيك من ذلك أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، فإذا أنت يا معاذ قد سلمت ...)

ونظر صديقى إلىّ وقال: وده جزء من الكلام عن النفس الأولى، فقلت: ليه هو فيه تانى؟ فرد: تانى وتالت ورابع وخامس وسادس وسابع، فقلت: إلحقونى يا ناس.

أحمد نور الدين عباس