الهدهد

الهدهد: بضم الهاءين وإسكان الدال المهملة بينهما، طائر معروف ذو خطوط وألوان كثيرة، وكنيته أبو الأخبار وأبو ثمامة وأبو الربيع وأبو روح وأبو سجاد وأبو عباد. ويقال له الهداهد، قال الراعى: كهداهد كسر الرماة جناحه.

والجمع الهداهد بالفتح، وهو طير منتن الريح طبعاً لأنه يبنى أفحوصه فى الزبل، وهذا عام فى جميع جنسه، ويذكر عنه أنه يرى الماء فى باطن الأرض، كما يراه الإنسان فى باطن الزجاجة، وزعموا أنه كان دليل سليمان على الماء، ولهذا السبب تفقده لما فقده. وكان سبب غيبة الهدهد عن سليمان ، أن سليمان ، لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطير والوحش، ما بلغ من عسكره مائة فرسخ، فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم، أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم، طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وأنه قال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبى عربى من صفته كذا وكذا ويعطى النصر على من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده فى الحق سواء، لا تأخذه فى الله لومة لائم. قالوا: فبأى دين يدين يا نبى الله؟ قال: بدين الحنيفية، وطوبى لمن أدركه وآمن به قالوا: فكم بيننا وبين خروجه يا نبى الله؟ قال: مقدار ألف عام، فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل.

وأقام سليمان بمكة، حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحاً، وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها، فأحب النزول فيها ليصلى ويتغذى، فلما نزل، قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، فنظر إلى طول الدنيا وعرضها، يميناً وشمالاً، فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه، فإذا هو بهدد من هداهد اليمن، فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، فقال هدهد اليمن ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبى سليمان بن داود فقال: ومن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح، وذكر له من عظمة ملك سليمان وما سخر الله له من كل شيئ، ثم سأله فمن أين أنت؟ فقال له الهدهد الأخر: أنا من هذه البلاد، ووصف له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثنى عشرة ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، ثم قال: فهل أنت منطلق معى حتى تنظر إلى ملكها؟ فقال: أخاف أن يتفقدنى سليمان فى وقت الصلاة، إذا احتاج إلى الماء فقال الهدهد الثانى: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فمضى معه ونظر إلى ملك بلقيس، وما رجع إلى سليمان إلا بعد العصر.

وكان سليمان قد نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء؟ فلم يعلموا له خبراً فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير وهو النسر، فسأله عن الهدهد فلم يجد عنده علمه، فغضب سليمان عند ذلك، وقال: ﴿لأعذبنه عذاباً شديداً﴾ الآية. ثم دعا بالعقاب وهو سيد الطير، فقال له: على بالهدهد الساعة، فارتفع فى الهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة فى يد الرجل، ثم التفت يميناً وشمالاً، فإذا هو بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض عليه العقاب يريده، فناشده الله، وقال: أسألك بحق الذى قواك وأقدرك على إلا ما رحمتنى، ولم تتعرض لى بسوء، فتركه ثم قال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبى الله قد حلف ليعذبنك أو يذبحنك فقال الهدهد: أوما استثنى نبى الله قال: بلى، قال: ﴿أو ليأتينى بسلطان مبين﴾ قال الهدهد: قد نجوت إذاً. ثم طار الهدهد والعقاب، حتى أتيا سليمان عليه السلام، فلما قرب منه الهدهد أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً، فأخذ سليمان رأسه، فمده إليه وقال: يا نبى الله اذكر وقوفك بين يدى الله عز وجل، فارتعد سليمان وعفا عنه. ثم سأله عن سبب غيبته، فأخبره بأمر بلقيس.

قال الزمخشري: وأما قوله: لأعذبنه، فتعذيبه بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه.

وقيل: كان عذاب سليمان عليه السلام للطير، أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه فى الشمس ممعطاً، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض، وهو أظهر الأقاويل. وقيل: إنه يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين إلفه، وقيل: إلزامه صحبة الأضداد.

وعن بعضهم أنه قال: أضيق السجون صحبة الأضداد، وقيل: حبسه مع غير جنسه، وقيل: الزامه خدمة أقرانه، وقيل: تزويجه عجوزاً. فإن قلت: من أين أحل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح الله له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع.

وحكى القزوينى أن الهدهد قال لسليمان: أريد أن تكون فى ضيافتى قال: أنا وحدى، قال: بل أنت وأهل عسكرك فى جزيرة كذا فى يوم كذا فحضر سليمان بجنوده فطار الهدهد فاصطاد جرادة فخنقها ورمى بها فى البحر، وقال: كلوا، يا نبى الله من فاته اللحم، ناله المرق. فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولاً كاملاً. وفى ذلك قيل:

جاءت سليمان يوم العرض هدهدة ... أهدت له من جـراد كان فى فيها

وأنشدت بلسـان الحال قائلة ... إن الهدايا على مقدار مهديها

لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها

وللحديث بقية ...

عصام

 
 

 

أحسن القصص

﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾ أول سورة يوسف، أى الغافلين عن القصص والتاريخ. وبداية من شدة قوة معرفة سيدنا يعقوب بالله، كان يدرك أن نور النبوه إلى سيدنا عيسى فى ولده سيدنا يوسف، ورغم أن له احد عشر ولداً غيره لكنه كان يحب سيدنا يوسف فى الله، أى من أجل الأنوار التى يحملها، ثم يرى سيدنا يوسف رؤيا، قال: ﴿يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين﴾، سيدنا يعقوب قال: ﴿يابنى لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين﴾، سكت سيدنا يوسف ولكن الكلام تسرب، ولذلك فإن ابن الطريقة المجتهد فى أوراده لايجوز له أن يتكلم عن أوراده ولا وارده إلا للمرشد طبقاً للنص القرآنى ﴿لا تقصص﴾، ونعود لقصتنا، وبعد أن تسرب خبر الرؤيا، إخوة سيدنا يوسف ذهبوا إلى سيدنا يعقوب ليحدثوه وقالوا (... يوسف لازم يلعب ولازم يعمل ولازم يشتغل...) فقال لهم: إنى أخاف أن تذهبوا به ﴿وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلين﴾ فأصروا وألحوا حتى سمح لهم سيدنا يعقوب، وفى العشاء جاءوا...وقالوا ﴿يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب﴾ أى نفس الكلام الذى قاله سيدنا يعقوب فى البدايه، بمعنى أن الكلام معروف له، ومع ذلك يقولون إن الأولياء لايعلمون الغيب ... أليس هذا بغيب! فقال لهم سيدنا يعقوب: ﴿بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ...﴾ بما يوحى بعملتهم التى جردوا فيها سيدنا يوسف من ملابسه ثم ألقوه فى الجب، والجب عميق وبه مياه قليله، وكان هناك ثعبان يأتى لسيدنا يوسف بالفاكهة، والجب يمثل فى هذه القصة (الخلوة الأولى لقتل النفس الأمارة)، والثعبان يمثل (إبليس) دخل لفتنة النفس الأمارة. أما إخوة سيدنا يوسف فقد ذبحوا جمل ثم جاءو بدم الجمل على قميص سيدنا يوسف وهذا هو الدم الكذب كما أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى ﴿بدم كذب﴾.

وإذا بسيدنا يعقوب يثبت لهم كذبهم، بأن سكب الماء على قميص سيدنا يوسف وإذ بالقميص غير ممزق ولايوجد به أثار لمخالب وأنياب الذئب. فقالوا ﴿وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين﴾ ولو حرف إمتناع لوجوب، بمعنى أنهم كذابين ولكنهم نفذوا ما أرادوه. وظل سيدنا يوسف بالجب إلى أن جاء جماعة التجار المسافرين، وأدلوا الدلو فتعلق به سيدنا يوسف، قالوا أنت إنس أم جن؟ قال لهم: إنس من خيار الناس وقص لهم قصته ... فقالوا فيما بينهم هذا غلام جميل نأخذوه ونبيعه للملك فيعطينا مالاً كثيراً، وخاصة أن الملك ليس عنده ذرية، إلا أنهم عندما عرضوا عليه سيدنا يوسف رفض فى البداية، وأخيراً اشتراه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزهدين ... وأعطاه الملك لامرأته التى تمثل (الدنيا)، والمؤمن الصادق المريد تتحداه الدنيا وتشاغله، والمهم أن الدنيا عشقته فوجدت عزمه شديد، فظلت تراوده وتراوده وهو لايقبل، وأخيرأً همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وعندما رأى برهان ربه جرى وهى من خلفه تلاحقه، وأمسكته من ظهره فشقت قميصه، وظل هو يجرى وإذا بالعزيز عند الباب، فقامت زليخه تقول للعزيز ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، وكان لإخت زليخه طفل لايتجاوز الثمانية أشهر، وعندما نظر العزيز لسيدنا يوسف ليسأله عن ما حدث؟ فإذا بسيدنا يوسف يشير إلى الطفل ويقول: إسألوه، وفى الحال الطفل يقف ويقول: ﴿إن كان قميصه قد قدَّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد قدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين﴾، وأمسك العزيز بالقميص ليعاينه فوجده قد مزق من الخلف فقال: ﴿إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم﴾.

وللحديث بقية

الجروب العام للطريقة البرهانية/الفيس بوك

تعليق على أحسن القصص

من أجمل الدروس ... وهناك تعليق شرعى على موضوع الرؤيا؛ فالرؤيا لا يعمل بها أحد إلا الأنبياء، وقد أكد مولانا على ذلك فالأحكام الشرعية وأحكام السير والأوراد لا تؤخذ من الرؤيا بالنسبة للمؤمن المريد العادى، وحسب الشرع فهو لا يقصص رؤياه على أحد إلا فى الضرورة القصوى وفى هذه الحالة لا يقصها إلا على الشيخ المرشد، لأن إخوة يوسف كانوا أنبياء ولكنهم حسدوه، وفى تفسير ابن عجيبة - البحر المديد لأحمد بن محمد بن المهدى بن عجيبة الحسنى الإدريسى الشاذلى الفاسى أبو العباس - يقول:

ولما قال يعقوب لابنه: ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً﴾ قال: يا أبت، الأنبياء لا يكيدون، قال له: ﴿إن الشيطان للإنسان عدو مبين﴾؛ ظاهر العداوة؛ لأجل ما فعل بآدم وحواء، فلا يألوا جهداً فى تسويلهم وإثارة الحسد فيهم، حتى يحملهم على الكيد. قيل: لم يسمع كلام يوسف فى رؤياه إلا خالته - أم شمعون - فقالت لإخوته: التعب عليكم، والإقبال على يوسف. فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا. وقيل: أخبرت بذلك ولدها شمعون، فأخبر شمعون إخوته، فخلوا بيوسف وقالوا له: إنك لم تكذب قط. فأخبرنا بما رأيت فى نومك، فأبى، فأقسموا عليه، فأخبرهم. فوقعوا فيما فعلوا به. أهـ.

قلنا: والملاحظ أن فى قصة سيدنا يوسف لم يفعل شيئا بخصوص الرؤية بالرغم من كونه نبيا ولا فعل ذلك سيدنا يعقوب بالغم من علمه بما سيفعله إخوة يوسف، ولكن الشريعة أقوى وهى التى عليها المعول، والمعنى أنه لا عمل بالرؤيا ولا انشغال بها للمؤمنين جميعا إلا فى حالة أن تكون أمر للأنبياء لأنها بالنسبة لهم تكون وحيا.

ونعود إلى الإمام ابن عجيبة للاستزادة:

﴿قال يا بنيَّ﴾، وهو تصغير ابن صغر للشفقة أو لصغر السن، وكان ابن ثنتى عشرة سنة، ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً﴾؛ فيحتالوا لإهلاكك حيلة. فَهِمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته، ويفوقه على إخوته، فخاف عليه حسدهم. ومن خاف من شيئ سلط عليه. والرؤيا تختص بالنوم، والرؤية بالتاء بالبصر. قال البيضاوى: وهى انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، المصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت؛ لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ. انظر تمامه فيه. وأخرج الحاكم فى المستدرك، والطبرانى فى الأوسط، عن ابن عمر قال: لقى عمر عليَّاً فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب، قال: نعم. سمعت رسول يقول: (ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلى نوماً إلا عرج بروحه إلى السماء. فالتى لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التى تصدقُ، والتى تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى تكذبُ) أهـ. فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير. والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام، فعلم التعبير علم مستقل، وقد أعطى الله منه ليوسف عليه السلام حظاً وافراً. أهـ كلام ابن عجيبة.

مجموعة الإشراف